مرحبا بكم في دار القرآن الكريم - تحديث شعبان 1429
 

من معالم الشاوية العليا في مدينة" ابـن أحمـــد "

الزاوية التاغية دار القرآن الكريم

توثيق تاريخي لنشأة الشيخ أحمد التاغي الحمداوي
وتأسيس زاويته القرآنية
 

      

·        تمهيد

·        موقع الزاوية التاغية

·        الزاوية التاغية دار القرآن الكريم.

·        الفقيه المؤسس الشيخ أحمد التاغي الحمداوي.

·        الجذور التاريخية للفقيه المؤسس الشيخ أحمد التاغي.

·        الشيخ أحمد بن علي الدرعي في زاكورة جد الشيخ المؤسس.

·        نسب الشيخ أحمد بن علي الدرعي

·        ظروف الهجرة من زاوية الشيخ أحمد بن علي في زاكورة.

·        أسباب الهجرة.

·        النموذج الأول: الفدائية والثبات على المبدأ.

·        النموذج الثاني: استضعاف المأوى وشهامة النصرة.

·        المهاجرون الجدد ونشوء قبيلة حمداوة في الشاوية.

·        خاتمــــة.

·        الملاحق ( ظهائر شريفة – وثائق – مقتطفات صحفية )

 

 

 

تمهيــــــــــد

 بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين

        في فترة فتنة عارمة ، تتأجج نارها في العالم الإسلامي عامةً ، وفي المغرب الأقصى خاصةً ، حيث قويت شوكة الصليبية الأوروبية ، وأنشبت مخالبها في أراضي المسلمين ، من أقصى آسيا الإسلامية ، إلى أقصى الغرب الإسلامي ، الذي سقطت جزائره تحت سنابك الغزاة الفرنسيين ، واحتلت فيه من طرف البرتغال والإسبان ثغور المغرب : طنجة وسبتة وملـيلـية والجديدة ، وأصيلا وآســفـي .... الخ ، وارتهنت مداخيل تجارته الخارجية بالديون الأجنبية ، ونخر التخلف البلاد والعباد بفساد الحكام  وجهل الرعية ، وانحلال الأخلاق ، وانفراط عقد الوحدة الوطنية بتقاتل أبناء الوطن قبائل وبطونا.

       في هذه الفترة العصيبة ، فرّ فقيه ورع بدينه وعلمه  وقراءاته السبع المتواترة ، وطلبته ، متفرغاً للعلم ، منقطعاً للعبادة والإقراء ، إلى بقعةٍ مهجورةٍ تغطيها المستنقعات والأعشاب الطفيلية ، وتقيم بها طائفة منبوذة من مرضى الجذام ، يتسولون نهاراً بالقرى المجاورة ، ويأوون ليلاً إلى جوار هذه المستنقعات التي كان يطلق عليها " بئر المجذام".

       في هذه البقعة نصب الفقيه خيمته ، وأسس مدرسته القرآنية ، ومسجده الذي تحيط به حالياً قبور ذريته وبعض طلبته ومحبّيه ومريديه ، الذين التحقوا به من مختلف القبائل. ثم أحاطت به على مرِّ السنين مساكن الأبناء والأحفاد والأسباط ، على مدى قرنين من الزمن ، فتكونت قرية صغيرة أطلق عليها " الزاوية " ، لتفرغ أهلها للعلم والعبادة ، والكسب الحلال عن طريق فلاحة الأرض وزراعتها.

       فأين موقع هذا الرباط القرآني الذي أسسه الفقيه الفار بدينه " أحمد بن مسعود ابن أحمد بن عبد الله، أو عبده " عَبُّو " كما ينطقه العامة بن العايدي بن الشرقي، بن محمد بن أحمد بن علي الدرعي الحمداوي ؟

  

موقع الزاوية التاغية

       تقع الزاوية التاغية في دائرة " ابن أحمد " بقبيلة "حمداوة " التي احتضنتها على مدى ثلاثة قرون ، قبائل "مزاب" المجاهدة ، على بعد ثمانين كيلو متراً إلى الشرق من مدينة الدار البيضاء ، في الطريق إلى بني ملال  على هضاب الشاوية العليا - العلوة ... وتحديداً في السفح الذي يقع عند تقاطع طريق سيدي حجاج - الكارة ، مع طريق برشيد- تادلا.

         ولم تكن مدينة " ابن أحمد " في عهد الفقيه أحمد التاغي الحمداوي - رحمه الله تعالى - موجودة، وإنما مجموعة قبائل "مزاب" المنحدرة من امتزاج كل الأعراق المغربية الأصيلة :

       من " مصمودة البرانس" التي أسست بالشـاويـــة  - أو" تامسنا " كما أطلق عليها سابقا قبيل الإسلام وصدره- دولة " برغواطة " ، ثم من " صنهاجة البرانس " ، المرابطين الذين فتحوا المنطقة وأعادوا أسلمتها وطهّروها من بقايا كفريات برغواطة ، ثم اختلطوا بأهلها. وتوفي مؤسس دولتهم ، عبد الله بن ياسين ، فيها بتاريخ 24 جمادى الأولى سنة 451 هـ ، ودفن بقرية من قراها تدعى " كريفلة ". ومن " زناتة بني مادغيس البتر " الذين عرّبهم الهلاليون وأسسوا دول بني يفرن ، ومغراوة  وبني مرين.

       كما هاجرت إليها في القرنين الرابع والخامس الهجريين وما بعدهما قبائل عربية عديدة مثل قبائل بني هلال ، وسليم ، ومعقل ، ورياح ، وجُشَم ، بمختلف بطونها وأفخاذها. وتكاثرت هذه القبائل وأتمت أسلمة المنطقة وتعريبها ، وتكوّنت منها القبائل الحالية بشعبها وبطونها ، وبما تتميز به من شيم رفيعة ، شجاعة وكرماً ومروءة وأنفة .

       كانت المنطقة مغلقة أمام النفوذ الأجنبي ، إلى أن استوطنها تاجر يهودي ، فرنسي الجنسية بإذن من السلطان سنة 1865م ، بحجة ربط علاقات تجارية مع الدواخل ، وغايته الحقيقية دراسة المنطقة والتجسس عليها.

       منذ ذلك الحين أخذت أطماع الإستعمار تتجه إليها، بسبب موقعها الاستراتيجي، وكونها بوابة الأطلس المتوسط  معقل أسود المغرب الضارية ، والبعد الأمني للدفاع عن الشاطئ الأطلسي ، مما جعل السلطان يكلف القائد " ابن أحمد " الحمداوي بتشييد قلعة عسكرية (قصبة) ما بين سنتي 1875م - 1880م فأسسها وأقام حولها التحصينات المنيعة ، ومخازن الذخيرة والمؤونة بما يكفي الجنود والمتطوعة في حالات الحرب والسلم. ثم تجمعت حول هذه القلعة بالتدريج خيام ومساكن بسيطة ، و"نوايل" ، ودكاكين للتجارة ، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين ، مما كوّن قرية يكاد يبلغ عدد سكانها ألفاً وخمسمائة نسمة ، أطلق عليها " قصبة ابن أحمد " باسم مؤسسها.

       وعندما احتل الفرنسيون المنطقة سنة 1908م ، هدمت القلعة العسكرية ، وبقيت القرية قائمة فحولها الاستعمار إلى مركز لحماية احتلاله الشاوية والدار البيضـاء ، ولمواصلة غزوه مناطق تادلا والأطلس المتوسط.

           في هذه الفترة بدأ التشكل المعماري الحالي لمدينة " ابن أحمد " على جانبي " الوادي الأحمر " الذي يقسمها قسمين :

            قسم على السفح الشمالي للوادي ، هو الحي الأوروبي وبه الإدارة الفرنسية ، ومكتب الحاكم الأجنبـي (المراقب المدني ) ، وهو عادة ضابط فرنسي يساعده قائد مغربي ، وترجمان جزائري. وحول الإدارة الفرنسية بنايات عصريـة ، ومركز للدرك الفرنسي وكنيسة ، ومقاه  ومطعم عصري واحد ، وصيدلية واحدة ، وسينما تعرض مرة كل أسبوع ، وسوق شبه عصري لبيع اللحوم والأسماك والخضر ، ومسبح بلدي يمنع من دخوله المغاربة والكــلاب ، وحانتان للخمر مفتوحتان في وجه المغاربة ، إحداهما في وسط المدينة والأخرى خارجها على بعد ميل واحد في الطريق إلى الدار البيضاء ، في منطقة "فرياط" التي يطلق عليها حالياً "نقطة إكس" .

       أمّا السفح الجنوبي للوادي الأحمر ، فقد امتلكه معمر يهودي فرنسي الجنسية يدعى "جوزيف"، جزأه مساكن شعبية بسيطة مزدحمة ، باع معظمها وأجّر بعضها للمواطنين ، فسمّي باسمه " درب جوزيف ".

       ركّز الفرنسيون جهودهم عند احتلالهم المنطقة على مصادرة الأرض من أصحابها الذين استماتوا في التمسك بها والدفاع عنها ؛ مما اضطر سلطة الاحتلال إلى اعتقال أعيان القبائل وإذلالهم بالجلد والضرب أمام نسائهم وأبنائهم وأقاربهم. ثم تطورت أساليب الإهانة والإذلال بإخراج المعتقلين كل يوم في صفوفٍ متراصةٍ مكبلين ، إلى الشوارع يكنسونها ، وإلى جمع أزبال الحظائر والمساكن ، يسوقهم عسكري فرنسي في يمينه السوط وعلى كتفه   البندقية.

          ثم لجأ الفرنسيون عند فشل هذه الأساليب إلى إبعاد " رؤوس الفتنة " -كما أطلق عليهم- إلى المدن النائية ومصادرة أراضيهم.

       بهذه الوسائل وغيرها استطاع الاستعمار سنة 1922م أن يسيطر على ما مجموعه 4819 هكتاراً من الأراضي الخصبة ، ويوزعها على ثلاثة عشر معمراً فرنسياً (يهودياً ومسيحياً) ، ثم في سنة 1933م بلغت المساحة المغتصبة 13000 هكتار وبلغ عدد المعمرين الفرنسيين بالمنطقة 44 معمراً.

       وفي سنة 1915م مدّ الفرنسيون إلى " ابن أحمد " خطاً حديدياً أوصلوه إلى وادي زم ولكن بعد حين تم تحويله عن " ابن أحمد " وأوقفوا بذلك حركة التطور الاقتصادي والتنمية بالمنطقة كلها.

       هكذا تحول " ابن أحمد " إلى مدينة شبه عصرية أخذت تنمو ببطءٍ بفعل النشاط الاقتصادي الاستعماري والهجرة القروية إليها ، فبلغ عدد سكانها سنة 1952م حوالي 4328 نسمة ، ثم في عهد الاستقلال بلغ عدد سكانها 6650 نسمة سنة 1966 وفي سنة 1971 بلغ عددهم 15808 نسمة.

       وفي أواخر الثلاثينات من القرن العشرين الميلادي أخذ سكان المنطقة يفيقون من هول صدمة الاستعمار ، ساعدهم على ذلك تسرب الأفكار الوطنية إليهم بواسطة أبنائهم الذين تخرجوا من جامعتي " القرويين " بفاس و"ابن يوسف " بمراكش ، فتحول " ابن أحمد " إلى مركز للحركة الوطنية في المنطقة كاملة على يد مجموعة قيادية سرية مكونة من خمسة أعضاء هم الأساتذة: التاغي بن الحاج المعطي ، وأحمد البوزياني ، ومحمد بن الحاج المهدي مطيع ، وإدريس بن الطاهر فريد، ومحمد الحمداوي السنـي ، وكلهم من أحفاد الحاج أحمد التاغي باستثناء الأستاذ أحمد البوزياني. فما لبث أن تكونت في كل شعب قبائل مزاب وحمداوة وبطونها خلايا الحركة الوطنية التي تحوّلت فيما بعد إلى "حزب الاستقلال" ثم تحوّل كثير من أعضائها سنة 1953م إلى المقاومة المسلحة ضد الاستعمار.

  

الزاوية التاغيـــة

- دار القرآن الكريــــم -

        لم تكن الزاوية قبل نزوح الفقيه المؤسس إليها سوى أرض عراء، مليئة بالمستنقعات، لجـأ إليها بضعة أفراد نبذهم مجتمعهم لإصابتهم بداء الجذام ، وسميت لذلك " بئر المجذام". تقع على بعد ميلين إلى الجنوب من مدينة " ابن أحمد " ، في نقطة التقاء عدة قبائل عربية أصيلة ، هي : أولاد شبانة من معقل في الغرب (ميلس) ، وقبيلتا بني يمــان ، والخزازرة (الخزرج) من الأزد باليمن في الشرق، وقبيلتا الحراكتة وبني إبراهيم الهلاليتان في الجنوب ، وقبيلة أولاد زهرة الحمداوية من قريش في الشمال ( عين الضربان) ، عند تقاطع الطريق إلى قبيلة " بني إبراهيم" مع طريق " ميلس- سيدي صيكوك" على سفح وادي "الحيمر" الذي يتكون من تجمع مسايل للمياه  تبدأ من جنوب "المكرط" قرب " مشيشة " في قبيلة " بني إبراهيم"  ماراً بالزاوية ، ثم " ميلس" وقبيلة "أولاد شبانة" ، ثم "جمعة رياح" منتهياً قرب "برشيد" في السدرة التي بأربعاء " ذياب " على الحدود بين " المذاكرة " و" أولاد حريز".

       هناك لجأ الفقيه أحمد التاغي بن مسعود الحمداوي بطلبته ، وكلهم في سن المراهقة والشباب ، وقد حفظوا القرآن الكريم بقراءة الإمام ورش ، ثم وفدوا إليه لتلقي القراءات السبع المشاهير.

           كان الفقيه أول مرة يدرّس طلبته هـؤلاء في قرية " زيو" بأولاد عبو ، قبيلته ، شمال ابن أحمد في الطريق إلى الكارة بحوالي ثلاثة أميال ، ولكن الأقارب والأهل والقبائل المجاورة ضجوا من تصرفات الطلبة وعدم انضباطهم. كما تضايقوا من أن الفقيه ينفق ماله ومكاسبه الزراعية على طلبته ، ويدع أرحامه وأقاربه ، فاضطر للرحيل إلى ناحية " دكالة " ولكن مشاكل الطلبة ومشاكساتهم للأهالي اضطرته مرة أخرى لأن يشتري أرضاً في منطقة بين قبيلتي حمداوة والمذاكرة ، أسس بها مزرعته ومدرسته القرآنية ، وعكف على العبادة والتدريس. وهناك اقتنع أهله وأرحامه والقبائل المجاورة بسلامة نهجه  وصواب إنفاقه ماله على طلبة القرآن ، فأخذوا يصلونه ويعينونه ، وأطلقوا عليه لقب " طايع الله " ، وعلى الأرض التي يقيم بها " أرض طاع الله " ، ومازالت هذه البقعة لحد الآن تسمّى " طاع الله " ، وقد آلت بالوراثة إلى بعض أحفاده من ورثة الحاج العربي القاضي - رحمه الله تعالى- . كما أن هذا اللقب هو الأصل التاريخي لأسرة " آل مطيع " من ذرية محمد بن الحاج المهدي بن الحاج إدريس بن الحاج المعطي بن الحاج أحمد التاغي رحمهم الله تعالى جميعاً.

       ولكن مقام الشيخ وطلبـته لم يطل في بلدة " طاع الله " بين المذاكرة وحمداوة ، إذ ما لبث الأهالي أن تضايقوا بشغب الطلبة ومشاكساتهم ، فاضطر الفقيـه للانتقــال إلــى"بئرالمجذام" وهناك أسس أسرته وأنسل ذريته ، وبنى مسجده ومدرسته القرآنية ، وبضع غرف لسكن طلبته ، واستقبال زواره وضيوفه. ثم جاوره في المقام الجديد محبوه ومريدوه من القبائل المجاورة وبعض الخريجين من تلامذته الذين أخذوا يساهمون معه في التدريس واستصلاح الأرض وتـجفيف المستـنقعات ، فاخـتفت الأمـراض والأوبئة ، وتحولت الزاوية - كما أطلق عليها لاحقاً- إلى بيتٍ من بيوت الله التي أَذِنَ اللهُ أنْ تُرفَعَ ويُذْكَرَ فيها اسمُه ، يُسَبِحُ له فيها بالغُدُو والآَصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارةٌ وَلاَ بيَعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وإِقَامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ ، يخافون يوماً تتقلبُ فيه القلوبُ والأبصارُ النور37 ، فاشتهر أمرها ، وقصدها طلابُ القراءات السبع وعلوم القرآن والفقه والعربية من كل صقع ، وتخرّج منها آلاف الرجال الذين انبثوا في القرى والمدائن والقبائل للإقراء والدعوة والإرشاد والإمامة والتدريس ، واقتنعت القبائل المجاورة بأهمية هذا المركز العلمي وحرص الناس على تشجيعه ودعمه وحمايته من غارات حروب "السيبة" والتقاتل القبلي التي كانت سائدة حينئذ.              

           كان التدريس في الزاوية أول عهدها مقتصراً على القراءات السبع وعلوم الفقه والقرآن ومبادئ العربية، يقوم بها الفقيه المؤسس أحمد التاغي الحمداوي - رحمه الله تعالى- ثم أضيف إلى ذلك تدريس الصبية القرآن الكريم برواية الإمام ورش ، يقوم به أحد تلامذته ؛ وبعد وفاته حوالي 1275 هـ - كما يبدو من ظهير التوقير والاحترام المسلم لأولاده بعد موته سنة 1276 هـ من قبل السلطان المولى محمد بن عبدالرحمن رحمه الله- تولى ابنه البكر "الحاج المعطي" مهمة القيام بتدريس القراءات السبع وعلوم القرآن والفقه، والإشراف على إدارة الزاوية ، والإنفاق على الطلبة. إلاَّ أنه اضطر حوالي سنة 1281 هـ إلى أن يهجر الزاوية فراراً من القائد أحمد بن الفكاك وأخيه الخليفة زويويل بن الفكاك اللذين نشرا الظلم بالشاوية وقبائل مزاب ، واختبأ لدى قبيلة أولاد سعيد عند الحاج الحفيان، وهناك زوج ابنه إدريس من بنت الحاج الحفيان ، الفقيهة حافظة القرآن الحاجة غَنّوُ. وعندما عزل القايد ابن الفكاك سنة 1283 رجع الحاج المعطي إلى الزاوية ؛

           ثم بعد توجهه للحج وعدم عودته من الديار المقدسة ، واختفاء أمره ، قبيل سنة 1296 هـ -كما يبدو من ظهير التوقير والاحترام المسلم لأبنائه "أحفاد الحاج أحمد التاغي"، من قبل السلطان المولى الحسن الأول في 21 محرم عام 1296 هـ - تكفل ابنه البكر الحاج إدريس بالزاوية تدريساً وإدارةً وإنفاقاً على الطلبة ، وتطويراً للمرافق ، فبنى القبة المجاورة للمسجد حالياً ، وشقَّ إلى الزاوية عينين للماء بواسطة الآبار المتصلة بأنفاق تحت الأرض "الخطاطر". إحداهما جرها إلى جوار المسجد والمدرسة القرآنية للوضوء والشرب وسقي المزرعة الموقوفة على الطلبة من قبل الجد المؤسس ، يطلق عليها العامة "العين المالحة" ، آبارها المتصلة ممتدة على طول الطريق الترابية إلى "سيدي صيكوك" على حقول "فدان خمسة". والثانية -أطلق عليها العامة "العين الحلوة" جرت إلى مزارع الأسرة بعيداً عن الزاوية ، وعن المساكن ، للسّقي وشرب الساكنة والقبائل المجاورة. آبارها ممتدة في امتداد الطريق الترابي إلى قبيلة "بني إبراهيم". وكلا العينين حلو مذاقهما، إلاّ أن إحداهما أخف وألذ. كما أن الحاج إدريس -رحمه الله تعالى- اهتم بتطوير الدراسة بالزاوية ، وتكوين علماء من أبنائها ، فأرسل بعثة علمية إلى جامعة القرويين بفاس مكونة من ابنه الفقيه الحاج الصغير ، وأربعة من أبناء أعمامه هم الفقيه أبوشعيب بن محمد ، والفقيه محمد بن الجيلاني ، والفقيه العربي بن محمد ، والفقيه محمد بن محمد. وبعد أن تخرج هؤلاء الشباب رجعوا إلى زاويتهم وتصدوا للتدريس بها ، فكانوا يدرسون اللغة العربية ، والفقه والفرائض ، والتوحيد والمنطق والتفسير والقراءات ، وقواعد التجويد. كما أصبح يزور هذه الزاوية لإلقاء المحاضرات وإقامة الندوات العلمية أساتذة كرام من القرويين ، من أمثال العلاّمة النوازلي الشيخ المهدي الوزاني. ثم التحق بها للتدريس أيضاً بعض علماء القبائل المجاورة الذين تخرجوا منها مثل الفقيه السيد أبوشعيب المزمزي ، من قبيلة المزامزة -ما بين ابن أحمد وسطات- ، والفقيه السيد أبوشعيب الإبراهيمي من قبيلة بني إبراهيم ، والفقيه الولي الصالح -دفين بيته بالزاوية- سيدي الحاج إبراهيم الأمغاري ، كما التحق بها في زمن المؤسس أحمد التاغي الولي الصالح سيدي شعيب الركراكي ، من ذرية الجماعة الركراكية الأولى التي روي أنها وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم عند بعثته. ولذلك كان الشيخ أحمد التاغي يجله ويأمر ذريته بإجلاله حياً وميتاً. وهو دفين بمقبرة الزاوية ، وضريحه معروف.

       وتحوّلت الزاوية بذلك في عهد الحاج إدريس -رحمه الله - إلى نادٍ علمي تعقد فيه المجالس العلمية ، والمذاكرات الفقهية ، مما أصبحت به ذات شهرة علمية بين القبائل المغربية ، وأخذت تتفرع عنها مدارس أخرى وزوايا ، يؤسسها بعض خريجيها ، مثل زاوية مولاي الطاهر القاسمي في دكالة ، وغيرها.

       ثم بعد وفاة الحاج إدريس يوم الجمعة 22 رمضان 1308 هـ الموافق لفاتح مايو 1891م -كما هو مدون على ضريحه- سارت الدراسة في الزاوية على ما تركها عليه تحت إشراف ابنه البكر السيد الكبير ، فقام بها خير قيام إدارة وتدريساً وإنفاقاً على الطلبة والمدرسين.

       إلاّ أنّ الهجمة الاستعمارية على البلاد استفحل أمرها في بداية القرن العشرين الميلادي ، وتعرض ثغر أنفا -الدار البيضاء- للهجوم الفرنسي سنة 1907 هـ فتنادت قبائل مزاب وحمداوة للجهاد بتحريض من علماء الزاوية وفقهائها ، ولكن بدائية الأسلحة والتنظيم القتالي وضعف الإمكانيات المالية لم تصمد في وجه الغزو المدجج بأحدث أسلحة العصر وأساليبه ونظمه ، وكانت الهزيمة أمام الغزو الأجنبي ، وسقط الشهداء والجرحى في كل قبيلة ومن كل بيت. وكان ممن استشهد : الفقيه الحاج الصغير بن الحاج إدريس ، وممن جرح : شيخ قبيلة أولاد عبو الحاج العربي بن الحاج المختار الذي بقى حياً إلى سنة 1957م ، بعد أن أعلن الاستقلال ، وتجاوز مائة عام من عمره.

       وتقدم الجيش الفرنسي ، فاحتل "مديونة" ، ثم "برشيد" ثم "ابن أحمد" ، فتعرضت القبائل المزابية والحمداوية إلى ضروب من التعذيب والاضطهاد والمطاردة والإرهاب والتقتيل والإذلال ، وتعرض أهل الزاوية بصفتها مركز إشعاع ديني وعلمي إلى الاضطهاد والنفي والتهجير ، ومصادرة الأموال والممتلكات. وحاول الفرنسيون إلغاء الدراسة بها ، ومصادرة أوقافها ومكاسبها في التوقير والاحترام والإعفاء من الكلف المخزنية التي أضفتها الدولة العلوية عليها منذ سنة 1250 هـ على يد السلطان المولى عبدالرحمن بن هشام ، ومن بعده ، وجعلتها بذلك حرماً آمناً لا يعتقل من التجأ إليه. فتصدى لهم عميد الزاوية حينئذ السيد الكبير بن الحاج إدريس بضراوة، واستدعى قبائل أولاد عبو وأولاد زهرة ، وبني إبراهيم والخزازرة ، وأولاد ريمة وأولاد امحمد والأحلاف وغيرهم ، فضربوا سوراً حول الزاوية للدفاع عنها. واشتبك هو بدوره في معركة بالأيدي والعصي مع الحاكم الفرنسي "المراقب المدني" الذي كسّر ذراعه ، فاضطر السيد الكبير إلى حيلة ينقذ بها الزاوية والتدريس بها ، ففر إلى الدار البيضاء وأعلن لنفسه الحماية الإنجليزية ، ثم تدخلت السفارة الإنجليزية محتجة على ما يفعله الفرنسيون بهذا الحرم العلمي ، ثم تم الاتفاق على أن يعاد للزاوية احترامها وتوقيرها وحريتها في تدريس القرآن والفقه وعلوم القرآن والعربية  وعلى أن تبقى حرماً آمناً لا يعتقل من التجأ إليها.

       هكذا استطاع هذا الحفيد الأعرج - بسبب إصابته في حرب الدفاع عن الدار البيضاء سنة 1907 م - أن ينقذ بعض ما يمكن إنقاذه ، وأن يواصل عمل جده في خدمة الدين ، وعمل والده الحاج إدريس في إرسال البعثات من خريجي الزاوية وأبناء الأسرة إلى جامعتي القرويين بفاس  وابن يوسف بمراكش ، ليؤطر بهم -فيما بعد- حركة الدعوة والتدريس والإمامة والقضاء والعدالة في الشاوية العليا كلـها ، وليكون بعضهم نواة للحركة الوطنية ثم نواة لحركة المقاومة المسلحة في هذه الناحية من الوطن.

       وبعد وفاته - رحمه الله تعالى- دون أن يعقب ذكوراً، لم يخلفه أحد من أقاربه في الإشراف على الزاوية بسبب نزوح أعيانهم إلى الدار البيضاء طلباً للرزق أو فراراً من إرهاب السلطة ، فتقلص دور الزاوية وتراجعت الدراسة فيها ، ودب الخراب إلى مرافقها ومساكنها ولم يبقَ فيها إلاّ تدريس القرآن الكريم برواية الإمام ورش وحدها، وبطريقة بدائية لبضعة طلبة فقراء مستضعفين لا يكاد سكان الزاوية ينفقون عليهم إلاّ بعسر ومشقة.

       وفي سنة 1973م حاولتُ إحياءها وتطويرها ، فأسستُ بها فصلاً دراسياً على نهجٍ حديث ، وعينتُ به مدرساً هو المرحوم بعفو الله الشاب الصالح السيد العربي بن الشيخ المختار بن الحاج العربي القاضي ، من أحفاد الفقيه المؤسس، وأنشأتُ فيها مكتبة إسلامية بها من كتب التفسير والفقه والأصول ، والعقيدة والحديث والفكر الإسلامي، واللغة العربية ما يعد لبنة لا بأس بها ، إلاّ أن محنة أواخر سنة 1975م كان من نتائجها أن هوجمت الزاوية من قبل رجال إدريس البصري (D.S.T.)، فأغلقوا الفصل الدراسي وطردوا الطلبة وألغيت الدراسة.

       ثم بعد سنوات من هجرتي إلى خارج الوطن لظروف اضطرارية ، وبجهود من عميد الأسرة التاغية ، ابن العم ومقام الوالد ، الحاج التاغي بن المعطي - رحمه الله تعالى- وسعيه الدائب لدى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سمح بإعادة تنظيم الدراسة بها ، ورممت فصولها ، وخصصت الوزارة منحاً لطلبتها ، ومساعدات عينية لهم من مواد غذائية وأفرشة وأغطية. ( انظر الوثيقة رقم 10 الخاصة بالشريط التسجيلي الذي أنجزته المرئية المغربية - التلفزة - عن الزاوية بتاريخ : 30/03/1996 وبثته بتاريخ 15/04/1996) ولكن الدراسة بها ظلت على قراءة الإمام ورش فقط ، والأمل المرجو هو أن تعـود إليهـا دراسـة القـراءات السبـع المشاهير كمـا كان ذلك في عهد الشيخ المؤسس -رحمه الله تعالى- قبل قرنين من الزمن.

       ثم بعد وفاة الفقيه الحاج التاغي بن الحاج المعطي  بقي يشرف على الزاوية شيخ القبيلة الحاج المختار بن الحاج العربي القاضي الذي توفى رحمه الله في موسم الحج هذه السنة ، وابن العم الفقيه الأجل السيد المهدي بن الفقيه ابن الحاج أمد الله في عمره. وكلاهما من أحفاد الشيخ المؤسس الحاج أحمد بن مسعود التاغي الحمداوي رحمه الله تعالى.

 

 الفقيه المؤسس

الشيخ أحمد التاغي الحمداوي

        هو أحمد التاغي ابن مسعود بن أحمد بن عبدالله (عبده ، أو عبو كما ينطقه العامة) من قبيلة أولاد عبدالله (أولاد عبو ) القاطنة في قرية " ِزيوْ " على بعد ثلاثة أميال تقريباً شمال مدينة "ابن أحمد" ، في الطريق إلى الكارة وقبيلة المذاكرة.

       اسمه الأصلي أحمد ، ثم لقب بالتاغي تيمناً بأحد حفظة القرآن الكريم المتقنين للقراءات السبع ، هو أحد أعمام جده أحمد بن عبدالله (عبو) ، المسمّى "التاغي" جد قبيلة أولاد بن التاغي الحالية.

       ولد الشيخ أحمد التاغي - رحمه الله تعالى- كما تقول الرواية الشفوية حوالي سنة 1190 هـ (1776 - 1777م) وهي السنة التي ولد فيها الشيخ محي الدين بن مصطفى والد الأمير عبدالقادر الجزائري. ونشأ في أحضان أسرته وقبيلته "أولاد عبو" في قرية " ِزيوْ " ، وحفظ القرآن الكريم برواية الإمام ورش في كُـتّاب قريته ، وأثناء ذلك رأى بأم عينه ما حلّ بقبيلة مزاب من نكبات ، منها إيقاع السلطان بهم في 23 شعبان 1202 هـ وقطعه رؤوس 700 من وجهائهم ، ثم إيقاعه بهم مرة أخرى في السنة الموالية ( شعبان 1203 ) مع قبائل بني مسكين ، لرفضهم أداء "النائبة" والأتاوات المستحقة عليهـم (إِتحاف أعلام الناس 3/182، 183 ) ، ثم تنقل بين زوايا المنطقة وأربطتها القرآنية وأتقن القراءات السبع المشاهير ، ودرس متون الفقه واللغة. ثم أرسله والده إلى فاس للدراسة بجامعة القرويين أوائل القرن الثالث عشر الهجري ، وهناك التقى بشيخه أبي حامد سيدي محمد العربي بن المعطي المنفي بفاس ، والذي كان له الدور الكبير في توجيهه وتربيته.

       لقد كان الفقيه سيدي محمد العربي بن المعطي نموذج العالم الربّاني والولي الصالح، من ذرية سيدي محمد الشرقي (أبي عبيد الشرقي) ، جامعاً للعلم والعمل والحال. كان أول أمره بزاوية جده في جعيدان - أبي الجعد حالياً- ببلاد تادلا ، على سفوح الأطلس المتوسط. وفي سنة 1199 نكب السلطان محمد بن عبد الله هذه الزاوية لرأي رآه ، ووشاية كاذبة بلغته ، وأمر بهدمها ، وطرد طلبتها الغرباء الملتفين على آل الشيخ بها. ثم نفى عميدها "سيدي محمد العربي بن المعطي" مع عشيرته إلى مراكش ، حيث مكث فيها إلى أن توفى محمد بن عبد الله في 24 رجب 1204 هـ فبويع لابنه يزيد الذي قتل في حربه ضد أخيه هشام بن محمد بن عبد الله سنة 1206 هـ. وعندما بويع في مراكش لهشام بن محمد ، وأذن للشيخ محمد العربي بن المعطي بالعودة إلى زاويته في "أبي الجعد" كان المغرب قد انقسم إلى ثلاث ممالك لثلاثة إخوة يقاتل كل منهم الآخر : هشام بن محمد في مراكش ، ومسلمة بن محمد في بلاد الهبط والجبل ، وسليمان بن محمد من فاس.

       ثم في سنة 1207 هـ ثار أهل الشاوية عن بكرة أبيهم وهزموا جيش السلطان المولى سليمان بن محمد الذي هرب جنوده تاركين أخبيتهم وأثاثهم وأسلحتهم ، فنفى السلطان سليمان الفقيه سيدي محمد العربي بن المعطي في نفس السنة إلى فاس. وهناك التقى به تلميذه أحمد التاغي الحمداوي وأخذ عنه ، وبقى ملازماً له إلى أن عاد معه إلى أبي الجعد بعد أن أذن له السلطان بذلك.

       وواصل الشيخ التاغي -التلميذ المريد المتخرج- بعد تأسيسه زاويته ، زياراته لشيخه المربي من أجل استشارته في كل أمر دعوة ، أو علم ذي بال ، بمنتهى الاحترام والتوقير والوفاء ، حتى إِنه كان لا يدخل على شيخه إلاَّ متوضئاً ، ولا يدخل بلدة "أبي الجعد" إلاّ متوضئاً. وإذا أراد أن يقضي حاجته خرج من أبي الجعد وأبعد في الأرض ثم عاد متوضئاً. وبقي هذا حاله مع مربيه إلى أن التحق الشيخ المربي "سيدي محمد العربي بن المعطي" سنة 1234 هـ بالرفيق الأعلى في الوباء الذي حلَّ بغرب المغرب قاطبة ، وأصاب النّاس منه بلاء شديد.

       وبقي الشيخ المريد "أحمد التاغي الحمداوي" بزاويته في " بئر المجذام " التي كان قد أسسها بإرشادٍ من شيخه سنة 1220 هـ وقد اشتد عوده ، واتصل ذكره ، وقصد بالولاية والصلاح والعلم والتقوى إلى الحد الذي كان فيه القضاء المغربي يكتفي بشهادته في أي قضية يشهد لها أو عليها. وهذه ميزة لم يجعلها الفقه الإسلامي إلاَّ لصحابي واحد هو خزيمة بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه- الذي أجاز النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- شهادته بشهادة رجلين ، كما ورد في صحيح البخاري "تفسير سورة الأحزاب" ، وفي تاريخ البخاري 3/285 ، وفي سنن أبي داود والنسائي ... ، وهو نفس القدر من الثقة والتصديق والعدالة التي كان يعامل بها المجتمع المغربي حينئذ هذا الشيخ الزاهد ، حيث كانوا يجيزون شهادته بشهادة رجلين ، كما هو واضح في العقد الشرعي القضائي المؤرخ بالخامس من صفر الخير عام 1241هـ. إذ سجلت شهادته وحده في قضية إبراء ذمة مالية بالصيغة التالية : ( الحمد لله وحده ، وبعد ، فقد شهد الفقيه السيد التاغي بن مسعود الحمداوي بمعرفته لحسن بن محمد ، النسب ، والعربي بن محمد، وأحمد بن المكي احبوس ، النسب ، وفاطمة بنت محمد النسب ، المعرفة التامة شرعاً ، عيناً واسماً ونسباً ... وشهد مع ذلك أنهم أبرءوا السيد العربي بن محمد من دعوتهم ... بعدما قبضوا منه سبعة مثاقيل دراهم ...) (انظر صورة العقد في الوثيقة الملحقة رقم 1).

       ذاع صيت الفقيه أحمد التاغي في الآفاق ، واشتهر بالعبادة والزهد والإنفاق على العلم ، والدعاء المستجاب والورع والزهد ، والبعد عن مواطن الشبهة في المكسب والمعاشرة والرفقة والمصادقة. كما تواتر لدى معاصريه ، وكل الأجيال التي أتت بعده إلى الآن ، أنه كان يخصص من نهاره وليله قسطاً لتدريس الجنِّ القرآن الكريم ، في غير أوقات تدريس طلبته ، وروى العامة والخاصة عن ذلك الكرامات والمشاهدات التي يضيق بذكرها المجال.

       ولئن تشكك بعض قراء هذا البحث في هذا الأمر ، فإنه عقدياً وتراثياً وتاريخياً غير مستبعد الوقوع ، فالجنّ بنص القرآن المحكم من مخاليق الله تعالى ، وفيهم المؤمن والكافر ومكلفون بتعلم دينهم وحفظ القرآن على يد أي حافظ له ، إنسياً كان أو جنياً. كما أن كتب التاريخ الإسلامي تحدثت عن عباد وحُـفّاظ كانوا يدرِّسون الجنّ، من ذلك ما أورده السيوطي في كتابه "حسن المحاضرة" الجزء الأول ص206 من أن العالم الزاهد شيخ الشيوخ بمصر ، إبراهيم بن موسى بن أيوب الأبناسي ، البرهان ، (725 - 802 هـ ) عين قاضياً للمذهب الشافعي وزهد فيه ، وكانت تقرأ عليه الجنّ.

         وما أورده السيوطي أيضاً في نفس الكتاب 1/243  من أن فخر الدين عثمان بن عبدالرحمن المخدومي البلبيسي الضرير ، المتوفى سنة 804 هـ إمام الجامع الأزهر ، انتهت إليه الرئاسة في القراءات ، وصار أمة وحده ، وكانت الجنّ تقرأ عليه.

      لم يكن الشيخ أحمد التاغي يغادر زاويته إلاّ إلى أبي الجعد لزيارة شيخه ، أو إلى صلة أرحامه وأصهاره في القبائل المجاورة ... فلما توفى شيخه لم يغادر إلاّ لأداء فريضة الحج.

       رآه السلطان سليمان مرة في أبي الجعد عند شيخه محمد العربي بن المعطي ، فأُعجب بعلمه وتقواه. ويقال إنه ساعده على ترميم مسجده وإصلاحه أو إعادة بنائه. ومن ثم بقى الشيخ محط احترام السلاطين العلويين الذين عاصروه ، وبقيت أسرته وزاويته محل المبرة والإكرام والاحترام والتوقير من طرف السلاطين الذين تولوا بعد وفاة المولى سليمان. وكان كلما بويع لأحدهم بادر بإرسال ظهائر تجديد التوقير والمبرة للفقيه وذريته، المشرفين على الزاوية.

       وهكذا توالى صدور الظهائر السلطانية من زمن المولى عبدالرحمن بن هشام رحمه الله إلى زمن المولى محمد الخامس رحمه الله تعالى ، على النسق الآتي :

          1 ) ظهير صادر من السلطان المولى عبدالرحمن بن هشام رحمه الله تعالى بتاريخ 14 جمادى الأولى عام 1250 هـ ، ورد فيه بعد الديباجة :( أننا اسقطنا عن ما سكه الأستاذ أحمد التاغي الحمداوي جميع الكلف المخزنية والوظائف السلطانية. فلا يطالب بقليل منها ولا كثير لاشتغاله بإقراء الطلبة وتصديه للأخذ عنه قراءة السبع المشاهير .... )

- انظر الوثيقة في الملحق رقم 2 -

     2 ) ظهير صادر من السلطان المولى محمد بن عبدالرحمن بن هشام وهو ولي للعهد ، بتاريخ 15 ذي القعدة عام 1268 هـ ، ورد فيه مايلي بعد الديباجة :(يعلم من هذا أننا بحول الله ، ثم وجود مولانا أدام الله نصره وعلاه ، سدلنا على ما سكه الأستاذ الخير السيد أحمد التاغي ، أردية التوقير والاحترام ، وحملناه على كامل المبرة والإكرام ، فلا يكلف بوظيف ، ولا تشمله قطعة تكليف ، لانتسابه لأهل الله ، وإكبابه على إقراء كتابه ، ونفع عباده ، فنأمر الوقف عليه من عمال سيدنا وولاته أن يعمل بمقتضاه ، ويعمل حده كلما اقتضاه ، والسلام . في 15 من قعدة الحرام عـــام1268).

- انظر الوثيقة في الملحق رقم 3 -

     3 ) ظهير توقير واحترام من السلطان المولى محمد بن عبدالرحمن ، وهو سلطان ، لأبناء الحاج أحمد التاغي بعد وفاته صادر في تاريخ 1276. وقد ورد ذكر هذا الظهير في المقال المنشور بمجلة دعوة الحق التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في العدد الأول من سنة 1962 الصفحة 21 تحت عنوان :( من الحلقات المفقودة في تاريخ المساجد المغربية) لكاتبه الأستاذ محمد الحمداوي.

- انظر الوثيقة في الملحق رقم 4 -

     4 ) ظهير توقير لأحفاد الفقيه الحاج أحمد التاغي بعد اختفاء أبيهم الحاج المعطي وعدم عودته من الحجاز في موسم الحج ، صادر عن السلطان المولى الحسن الأول رحمه الله تعالى بتاريخ 21 محرم 1296 هـ. وقد ورد فيه بعد الديباجة: ( جدّدنا بحول الله وقوته وشامل يمنه وبركاته لحملته حفدة الفقيه السيد التاغي الحمداوي على ما كان بيد آبائهم الصائرين إلى عفو الله من ظهيرنا الشريف، وأبقيناهم على ما عهد لهم من التوقير والاحترام والبرور والإكرام ، وحاشيناهم عمّا نطالب به العوام ، من الوظائف المخزنية والتكاليف السلطانية تجديداً تام الرسم ، نافذ الحكم ، فنأمر الواقف عليه من عمالنا وولاة أمرنا أن يعمل بمقتضاه ....

      صدر به أمرنا المعتز بالله في 21 محرم الحرام

عام 1296 هـ ).

- انظر الوثيقة في الملحق رقم 5 -

 

         5 ) ظهير احترام ومبرة وإكرام واستيصاء بالخير صادر في حق الحاج إدريس بن المعطي بن أحمد التاغي الحمداوي من السلطان المولى الحسن الأول بتاريخ 25 شوال 1302 هـ وقد ورد فيه مايلي :

( يعلم من هذا المسطور الكريم المتلقى أمره بالإجلال والسعادة ، أنا بحول الله وقوته ، أجرينا الحاج إدريس بن الأستاذ السيد التاغي ، مجرى أولاد الفقهاء في الاحترام والـحمل على كامل الـمبرة والإكرام ، والاستيصاء به خيراً.. والسلام. في 25 شوال 1302 هـ ).

- انظر الوثيقة في الملحق رقم 6 -

     6 ) ظهير صادر أيضاً في حق الحاج إدريس نفسه من السلطان المولى الحسن الأول رحمه الله تعالى بتاريخ 25 شوال عام 1304 هـ.

- انظر الوثيقة في الملحق رقم 7 -

     7 ) تجديد وإقرار للظهائر السابقة كلها في ظهير شريف صادر من السلطان المولى محمد الخامس رحمه الله تعالى ، صادر في 29 محرم الحرام عام 1372 هـ ، وسجل في الوزارة الكبرى بتاريخ 11 صفر عام 1372 هـ ، الموافق 31 أكتوبر سنة 1952م. وقد ورد فيه ما يلي : ( يعلم من ظهيرنا هذا أسماه الله وأعز أمره وجعل في الصالحات طيه ونشره أننا بحول الله وقوته وشامل يمنه ومنته جدّدنا لحملته السيد التاغي بن الحاج المعطي الحمداوي القاطن بالدار البيضاء وإخوته على ما بأيديهم من ظهائر أسلافنا الكرام ، قدّس الله أرواحهم في دار السلام. وأقررناهم على ما عهد فيهم من التوقير والاحترام، والحظوة والإنعام ، والحمل على كاهل المبرة والإكرام ، والرعي الجميل المستدام ، تجديداً وإقراراً تامين ... فنأمر الواقف عليه من خدّامنا وولاة شريف أمرنا أن يعلمه ويعمل بمقتضاه ، ولا يحيـد عن كريم مذهبه ولا يتعداه. والسلام . صدر به أمرنا المعتز بالله تعالى في 29 محرم الحرام عام 1372 وسجل هذا الظهير الشريف في الوزارة الكبرى بتاريخ 11 صفر عامه ، الموافق 31 أكتوبر سنة 1952).

- انظر الوثيقة في الملحق رقم 8 -

 

       كانت الطريقة الصوفية التي ورثها الشيخ أحمد التاغي عن آبائه منذ جده الأول سيدي أحمد بن علي الدرعي هي "الشاذلية". ولكننا لم نجد في تراثه وتوجيهاته وعبادة ذريته منذ توفى إلى رحمة الله إلى الآن أي أثرٍ للتصوف ، على رغم أن شيخه سيدي محمد العربي بن المعطي كان صوفياً. والزاوية لحد الآن بدراستها  وأوراد أهلها ومجالس ذكرهم، وعباداتهم ليس بها أي أثر للتصـوف ، ولعلّ ذلك من تأثير الدعوة الوهابية التي ظهرت في هذه الفترة ، وورود كتاب من محمد بن عبدالوهاب بنجد ، في شأن ذلك إلى السلطان المولى سليمان الذي تأثر بالنهج السلفي ، وشجّع على نشره ، وأرسل إلى المشرق ثلة من العلماء سنة 1226 هـ حاوروا علماء نجد السلفيين وناظروهم واتفقت كلمة الطرفين على سواء ، ورجعوا مقتنعين بسلامة النهج وصوابه ، فكتب السلطان المولى سليمان رسالته المشهورة في ضرورة نبذ الخرافة والشعوذة والبدع للعودة إلى عقيدة السلف الصالح ، تليت في المساجد والأسواق والزوايا وأربطة العلم ، وكانت الزاوية التاغية في طليعة من تأثر بهذه الدعوة وساهم فيها.

       هكذا قضى الشيح أحمد التاغي الحمداوي حياته مجاهداً بالقرآن الكريم دراسة وتعليماً ودعوة ، علماً وعمــلاً ، امتثالاً لقوله تعالى فَلاَ تُطِع الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً الفرقان 52 ، ملتزماً بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، متبعاً غير مبتدع، سلفي العقيدة والعبادة ، مكسبه فلاحة الأرض ، وريع أرضه قسمة بينه وبين طلبته القراء، بعيداً عن الأضواء ومجالس الرياء والزيف والملق. صوّاماً بالنهار قوّاماً باللّيل ، محاولاً ستر كراماته وولايته خشية إحباط العمل والتورط في السمعة ،  إلى أن توفاه الله تعالى إليه حوالي سنة 1275 هـ، كما يبدو من تاريخ ظهير توقير أبنائه بعده ، الصادر سنة 1276 هـ، عندما بويع السلطان المولى محمد بن عبدالرحمن في نفس السنة.

       ولعلّ من غرائب التقديرات الإلهية أنه في نفس فترة جهاد الشيخ أحمد التاغي بالقرآن في الشاوية العليا ، كان شخص آخر من أبناء عمومته ، من ذرية جده الأعلى في زاكورة، الشيخ أحمد بن علي الدرعي يجاهد الفرنسيين مع الأمير عبدالقادر الجزائري الذي بويع على الجهاد يوم الاثنين 12 رمضان سنة 1248 هـ موافق 2/2/1833م بموضع يقال له "الدردارة" في صحراء غريس التي كانت محل موسم رجال غريس المعبر عنه بـ"الوعدة" ، وذلك عقب احتلال الفرنسيين لمدينة وهران في 4/1/1831م هذا الشخص هو الحاج مصطفى بن التهامي خليفة الأمير عبدالقادر وابن عمته. وقد ورد في كتاب "طلوع سعد السعود" في أخبار وهران والجزائر واسبانيا وفرنسا إلى أواخر القرن التاسع عشر ، لمؤلفه لاغا بن عودة المزاري ، بتحقيق الدكتور يحيى بوعزيز الصفحة 102 ، من الجزء الأول :( والشريف السيد أحمد بن التهامي أحد أولاد سيدي أحمد بن علي البوعمراني ، وابنه الحاج مصطفى بن التهامي خليفة الأمير السيد الحاج عبدالقادر الحسني بمعكسر)؛ وعلّق المحقق د. بوعزيز في هامش الصفحة 102/1بقوله:( الحاج مصطفى بن التهامي هو ابن أحمد بن التهامي وابن عمة الأمير، عيّنه الأمير رئيساً لديوان الإنشاء ، وخليفة له على مدينة معسكر بعد مقتل الخليفة محمد بن فريحة المراحي ، في "البرجية" أثناء التدريب على استعمال السلاح. وقد تولى قيادة جيش الأمير في عدة جهات من الوطن ، بتلمسان والمدية ، والهضاب العليا ، والجلفة ، وبوسعادة ، والمسيلة ، وبرج بوعريج وسطيف وعين تاغروط ، وعين الترك ، وخاض معه معظم المعارك، وأشرف على تنصيب الحسن بن عزوز ، ومحمد الصغير بن عبدالرحمن ، خليفتين للأمير عبدالقادر في "الزيبان" ، والشيخ بوزيان شيخاً في واحة "الزعاطشة". وبقي يكافح ويجاهد مع الأمير إلى أن استسلم ونفي معه إلى فرنسا ، وألف في قصر "أمبواز" تاريخاً عن حياة الأمير عبدالقادر العسكرية والسياسية والأدبية والتاريخية، مازال مخطوطاً. وهاجر معه إلى الشام بعد إطلاق سراحهما، وتوفي هناك، ونظم قبل وفاته غوثية طويلة من ألف بيت...).

 

 الجذور التاريخية للفـقـيه المؤسس

الشيخ أحمد التاغي

        استقصاء الجذور التاريخية لأسرة الفقيه المؤسس يحتاج إلى دراسة خاصة معمقة ، وقدرة على الوصول إلى المراجع النادرة مخطوطة ومطبوعة. وهذا غير متوفر لدي حالياً ، ولعلّ الله سبحانه وتعالى يمنُ عليّ بظروفٍ أكثر يسراً وأخف وطأة ، لأنجز هذا المشروع، أو يلهم بعض المولعين بمثل هذه الدراسات أن يخوض غمار هذا المجال ، إلاّ أن ما لا يدرك كله لا يترك جله ، وهذا ما أحاوله في هذا الشأن.

       ذلك أنّ الجذور العائلية للرجل ممتدة عبر التاريخ الإسلامي امتداداً يتعذر حصره في عصر واحدٍ أو في عصرين ، فهو من ذرية الإمام علي بن أبي طالب -  رضي الله عنه- ، من زوجته البضعة الطاهرة ، فاطمة الزهراء، بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نسباً موثقاً في كتب الأنساب ، لا مجال لإنكاره أو التشكيك فيه ، كما سيبدو واضحاً من ثنايا هذا البحث . ولذلك نكتفي بحصر دراستنا لهذه الجذور في الأصول القريبة التي عتمت عليها ظروف قاهرة في الاغتراب والاضطهاد والمعاناة .

       وقد سبق أن ذكرنا أن أحمد التاغي يرتفع بنسبه القريب إلى جده الأعلى بالجنوب المغربي ، دفين قرية أولاد الحاج - قصر الباشا- بضواحي زاكورة ، فهو أحمد التاغي بن مسعود ، بن أحمد بن عبدالله (عبده ، عبو) ، بن العايدي بن الشرقي ، بن محمد بن أحمد بن علي الدرعي البوعمراني ، الحمداوي ، أبوالعباس. فمن هو هذا الجد ؟ وكيف استوطن منطقة زاكورة في جنوب صحراء غريس ؟ وكيف وفدت ذريته من حمداوة إلى الشاوية العليا بين قبائل مزاب العتيدة ؟

 

 

الشيخ أحمد بن على الدرعي في زاكورة

 جد الشيخ المؤسس

 

       القرن العاشر الهجري - السادس عشر الميلادي - هو العصر الذي عاش فيه العالم الرباني ، الفقيه الزاهد ، شيخ العباد الصوفي الشاذلي ، الذي جمع بين العلم والعمل والحال، أبوالعباس أحمد بن علي بن أحمد بن إدريس بن يحيى بن إدريس البوعمراني (نسبة إلى قبيلة آيت باعمران التي درس في بعض أربطتها القرآنية) ، الدرعي (نسبة إلى منطقة درعة التي هاجر إليها واستقر فيها آخر عمره) الحمداوي (نسبة إلى قبيلة حمداوة المنتشرة بالمغرب في زاكورة، وجرسيف ، والشاوية العليا ، والأطلس المتوسط بعيون أم الربيع ، وبالجزائر في تلمسان وبشار وقالمة) الحمودي (نسبة إلى بني حمود بالأندلس) الإدريسي (نسبة إلى المولى إدريس بزرهون بالمغرب) وهذا ما وثقه الدكتور يحيى بوعزيز عند تحقيقه لكتاب "طلوع سعد السعود" لمؤلفه لاغا بن عودة المزاري ، حيث قال في هامش الصفحة 110 من الجزء الثاني : ( وذكر الشيخ بلهاشمي بن بكار نقلاً عن أبي رأس في كتابه الحاوي بأنّ أبا العباس أحمد بن علي البوعمراني ، جد عبدالرحمن بن الطيب ، كان تلميذاً لأحمد بن يوسف الراشدي الملياني ، وكان يطعم المساكين من ماله الخاص ، خاصة في عامي المسغبة 958-959 هـ (1551-1552م) ، توفي بغريس ودفن بها ).

       فالرجل غير مجهول إذن ، ولا ينذر أن نجد له ذكراً في مؤلفات القوم بالجزائر والمغرب وتونس وليبيا، لأن هذه الأقطار هي المجال الطبيعي لهذا الصنف من رجال المنطقة. ولعلّ حركة إحياء الثرات وتحقيقه تمتد لتنفض الغبار عن مخطوطات نادرة ومهمة تتعلق بهذا القرن -العاشر الهجري- الذي مهّد لسقوط البلاد والعباد تحت سنابك الغزاة من أوروبا الصليبية. وقد ذكر الدكتور بوعزيز عند تحقيقه للكتاب المذكور "طلوع سعد السعود" عدة مراجع مهمة مازالت مخطوطة لعلّ فيها ما يلقي الضوء على موضوعنا هذا ، لو أمكن الوصول إليها، مثل :

           - العقد النفيس في بيان علماء وشرفاء غريس ، لمؤلفه أبي علي بن الحسن المجاجي أبهلول، وهو مخطوط ألف في بداية القرن الحادي عشر الهجري وأواخر القرن السادس عشر الميلادي.

           - وكتاب عقد الجمان النفيس في ذكر الأعيان من أشراف غريس ، لأبي زيد عبدالرحمن، وهو رجز شرحه تلميذه محمد الجوزي بعنوان فتح الرحمن في شرح عقد الجمان. كما شرحه الناصر أبوراس وترجمه ل. فان ونشره في المجلة الإفريقية عام 1891م.

 

       علماً بأن "غريس" تطلق تاريخياً وجغرافياً على الجزء الغربي لمنطقة الزاب ، في شرق المغرب الأقصى من جنوب تلمسان إلى نهر درعة في زاكورة وما حولها ، وتشمل عشرات المدن والقرى والقبائل، وبها بويع الأمير عبدالقادر الجزائري على الجهاد في بلدة تدعى "الدردارة".

 

 

نسب الشيخ أحمد بن علي الدرعي

                القاعدة الفقهية أن الناس مصدقون في أنسابهم ، ولكن الادعاء والانتحال قد عمَّ في هذا المجال ، لذلك لابد من التوثيق التاريخي تأكيداً وتثبتاً ، وهو ما نعتمده في هذه الدراسة. وقد كفانا ابنُ حزم في كتابه "جمهرة أنساب العرب" سواء في نسخته التي حققها الدكتور المنجد ، أو النسخة التي حققها جماعة من الأساتذة ، مؤونة توثيق نسب سيدي أحمد بن علي الدرعي ، عند حديثه عن ذرية المولى إدريس الأكبر دفين زرهون ، من نسل حمود الناصر بالأندلس. فقال في الصفحتين 50-51 من نفس الكتاب: ( ومنهم: القاسم ، المسمّى المأمون ، وعلي ، المسمّى الناصر تسمَّياً بالخلافة بالأندلس ، ابنا حمُّود بن ميمون بن حمّود ، واسمه أحمد ، ابن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس ، وذلك أنّ عمر بن إدريس بن إدريس كان له من الولد : عبيد الله ، ومحمد ، وعلي ، وموسى ، وإدريس ، فولد عبيد الله بن عمر بن إدريس : علي ، وإبراهيم ، وحمزة ، والقاسم ، فولد علي بن عبيد الله بن عمر : القاسم ، وأحمد حمّود ، فولد أحمد حمود هذا : ميمون ابن حمود ، فولد ميمون : حمود بن ميمون : فولد حمود بن ميمون : القاسم ، وعلى المذكوران ، فولد القاسم بن حمود بن ميمون المأمون المذكور : محمد ، صاحب الجزيرة ، وتسمّى بالخلافة : والحسن ، تنسّك ولبس الصوف وحجَّ. وولي الجزيرة بعد محمد ابن القاسم المذكور ابنه القاسم بن محمد ، ولم يتسم بالخلافة، إلى أن خرج عنها سنة 446 واضمحل أمرهم كلهم.

       وولد علي بن حمود الناصر: يحيى المُعتلي ، وإدريس المتأيد ، تسمّياً بالخلافة في الأندلس. فولد يحيى : المعتلي حسن ، صاحب سبته ، تسمّى أيضاً بالخلافة ، ولم يعقب : وإدريس ، تسمّى أيضاً وتلقب بالمتعالى ، وأعقب ابناً واحداً اسمه محمد ، وهو آخر ولاتهم ولم يتسم بالخلافة ، وولد إدريس المتأيد : عليّ ، ويحيى ، ومحمد ، وحسن ، مات علي في حياة أبيه ، وأعقب ابناً اسمه عبدالله. وأمّا يحيى ، فقتله ابن عمه لـحـًّا حسن بن يحيى ، إذ ولي الأمر ، أعقب ابناً اسمه إدريس ، وهو الآن بقرطبة. وأما محمد ، فقام على ابن عمه إدريس بن يحيى ، وتسمّى بالمهدي ، ودعا بالخلافة ، وحارب ابن عمه إدريس بن يحيى ، وكلاهما تسمّيا بالخلافة ، وبينهما نحو عشرة فراسخ ! ومات وله من الولد : علي ، وإدريس ، وأمّا حسن ، فهو معتقل عند ابن عمه إدريس بن يحيى ، ثم أفلت ، فأخرجه أخوه عن نفسه إلى العدوة ، وتسمّى بالسامي عند غمارة ، ثم اضمحلَّ أمره ، وخرج إلى المشرق ، ثم اضمحلَّ أمر جميعهم ، ولم يبقَ لهم أمر في رجب سنة 488. وبقى من بقي منهم طريداً ، شريداً ، في غمار العامة. وكان بدء أمرهم في شوال سنة 400 ، إذ ولى القاسم بن حمود سبتة إلى التاريخ المذكور. وكان هذا الفخذ من أفخاذهم خاملاً، وكانوا صاروا بتازغدرة من عمل غمارة، وإنما كانت الرياسة منهم في ولد القاسم وعيسى ابني إدريس بن إدريس، وصاحب درعة، أحمد بن علي بن أحمد بن إدريس بن يحيى بن إدريس..)

 

       من هذا النص يتضح أن أحمد بن علي الدرعي (صاحب درعة) من ذرية إدريس الذي كان خليفة في قرطبة ، ابن يحيى بن إدريس المتأيد ، بن علي بن حمود الناصر ابن ميمون بن حمود بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبدالله الكامل بن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- من زوجته الطاهرة فاطمة الزهراء بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

       وكان إدريس بن يحيى خليفة بقرطبة ، فقام عليه ابن عمه محمد وحاربه ، وأقام كل منهما (خلافة !) في مدينة أندلسية تبعد عن مدينة خلافة الآخر بعشرة فراسخ (ثلاثين ميلاً). واستمر التقاتل والتحاسد والبغضاء بين بني حمود في الأندلس إلى أن ذهب ريحهم وقضى عليهم وشردوا في الآفاق.

       أمّا عن زمن هجرة الحموديين (بني حمود) في الأندلس إلى المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب) فهو وإن كان عند سقوط دولتهم بتناحرهم فيما بينهم فإن تفاصيل هذه الهجرة لا تسعها هذه الدراسة ، وإن كانت بعض المصادر التاريخية التي توفرت لي قد أشارت إليها إشارة عارضة ، مثل ما ورد في كتاب "الإعلام بمن حلَّ بمراكش وأغمات من الأعلام" (5/217) ، للعباس بن إبراهيم التعارجي حيث قال: ( أولاد المرِيِّـي -نسبة إلى ألـمرية- هم والحموديون فرع واحد ، دخلوا فاس سنة 1012 هـ في قول ، ولهم عقب في فاس ).

       كما أشارت كتب تاريخ عديدة إلى نزوح بعض منهم عقب سقوط دولتهم مباشرة إلى سبتة ، وبروز أعلام فـيهم ، من مثل الشريف الإدريسي ( محمد بن محمد بن عبدالله ابن إدريس المتأيد بن يحيى بن علي بن حمود الحمودي ) الذي هاجرت عائلته بعد سقوط قرطبة بيد صنهاجة إلى سبتة ، وهاجر هو إلى صقلية ، حيث آواه ملكها "روجار" وأكرمه فألف له كتاب الجغرافية الشهير "نزهة الآفاق في اختراق الآفاق". ووضع له خارطة للأرض على كرة من الفضة، كما ألف كتاب "روض الأنس ونزهة النفس" في الجغرافية، وكتاب في "علم العقاقير" ( انظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان القسم 5 ص 207).

       ولعلّ اسم القبيلة "حمداوة" هو تحريف بفعل التقادم ، وظروف الهجرة والمطاردة، واختلاط العربية باللهجات المحلية لمنطقة المغرب العربي ، للإسم الأصلي "الحموديون" نسبة إلى حمود (أحمد) الناصر.

       ولئن غابت عنا تفاصيل هجرة الأسر الحمودية إلى المغرب العربي وتوزّعها بين القبائل والمدن ، كما هو حال جميع الأسر المسلمة التي هاجرت على دفعات أثناء السقوط التدريجي للأندلس في يد الإفرنج فإن المؤكد لدينا حسب كل المصادر التاريخية التي توفرت لحد الآن أن سيدي أحمد بن علي الدرعي ، البوعمراني الحمودي الحمداوي ، أبا العباس كان تلميذاً لأبي العباس أحمد يوسف المتوفي سنة 927 هـ ، دفين مليانة بالجزائر ، وأنه ظل بمليانة بجوار  ضريح شيخه يواصل دعوته الشاذلية ويدرس الفقه والقرآن الكريم ، وينفق على المساكين من ماله الخاص ثم فجأة يختفي من المنطقة كليةً ، ويظهر في زاكورة وقد أضيف إلى اسمه لقب "الدرعي" نسبة إلى النهر الذي ألقى عصا الترحال بجواره، يعلّم الناس القرآن والفقه ، في العراء ، على الأرض الجرداء ، متكئاً على جذع نخلة -كما تقول الرواية الشفوية- اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول عهده بالمدينة المنورة. وقد نصب خيمة لأسرته في قصر الباشا حيث مسجده وخلوته حالياً.

        أسباب هذه الهجرة المفاجئة إلى أقصى جنوب غريس نجدها في ثلاث مظان :

           أولاها تجربة أسرته التاريخية منذ محنة جده الإمام علي، والأيـمة الحسن والحسين ، وإدريس الأكبر وإدريس الأزهر ، وما عانوه في سبيل الدعوة الإسلامية و إقامة الحق وإنكار المنكر. ثم محنة أجداده الحموديين في الأندلس حيث تقاتل الإخوة الأشقاء ، وأبناء العم ، على الملك والسلطة ، وسفكوا دماء بعضهم ، فذهبت ريحهم وتشردوا في الآفاق ، وتجرعوا مرارة الإذلال والقهر بعد العز والسلطان. وقد استوعب سيدي أحمد بن علي هاتين التجربتين ، وخرج منهما بقرار اعتزال هذه المجالات كلها، والانقطاع للعلم والتربية والكسب الحلال والإنفاق في سبيل الله وعدم دخول أي صراع سياسي.

       وثاني المظان ، وصيته الشفوية التي تركها لذريته تتوارثها بعده. إذ أمرهم بالابتعاد عن الحكم والحكـام ، لا يعينونهم ولا يعينون عليهم ، والاشتغال بتدريس القرآن الكريم ، ولزوم الظل والابتعاد عن الشهرة والرياء. وتعد وصيته هذه خلاصة استيعابه التام لتجربة أسرته على امتداد التاريخ ، وفهمه لظروف عصره وملابساته.

           أما ثالث المظان ، لفهم موقف الشيخ وتصرفاته وهجرته واختياره حياة الخمول الإيجابي في تلك الصحراء الشاسعة وسط مجتمع فطري بدائي، فهو الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية والدينية التي عاشها الشيخ في أواسط القرن العاشر الهجري، وخاصة في سنتي المسغبة اللتين اعقبتها هجرته إلى درعة (958-959 هـ/1551-1552م) .

       لقد شهد القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) في منطقة المغارب (الأدنى والأوسط والأقصى) فتناً عارمةً ، وتقاتلاً بين الإخوة عنيفاً وسفكاً للدماء شديداً وهجوماً صليبياً على البلاد شرساً.

       في هذا القرن استولى الأسبان على بجاية سنة 910 هـ ، ثم على وهران سنة 914 هـ وفعلوا بأهلها الأفاعيل ، واضطر المسلمون إلى استدعاء الترك العثمانيين لإنقاذ البلاد والعباد ، راسلهم الفقيه الشيخ أبوالعباس ابن القاضي الزواوي ، قائلاً: ( إن بلادنا بقيت لك أو لأخيك أو للذئب) ، فأقبلوا مسرعين ، واستولى عروج على ثغر الجزائر ، ثم على تلمسان ، وتغلب على بني زيان سنة 923 هـ. ثم ما لبث الترك أن أشاعوا الظلم والفاحشة والفساد في البلاد ، وقتلوا الفقيه الذي استقدمهم (أبا العباس الزواوي) لأنهم أيقنوا أنهم لا يدوم لهم ملك ولا يأمنون على أنفسهم وفسادهم بوجوده. وفرَّ بنو زيان منهزمين أمام الترك إلى منطقة "دبدو" فغدر بهم صاحبها الوطاسي وأخذ أموالهم واعتقلهم.

       في هذا القرن أيضاً كانت الدار البيضاء (أنفا) بيد البرتغال الذي استولى عليها منذ سنة 874 هـ ، وهدمها وبقيت مهدومة أربعين سنة ( إلى سنة 914 هـ) ولم يخرجوا منها إلاّ في سنة 1154 هـ.

       وكانت فضالة (المحمدية حالياً) بيد شركة تجارية من مدريد قاعدتها قشتالة.

       وفي سنة 907 استولى البرتغال على البريجة ، وكانت مجرد بناء للحراسة يسمّى "برج الشيخ" ، وأسس فيها مدينة الجديدة.

       وفي سنة 875 استولى البرتغال على أكادير وأسسوا حصن "فونتي".

       وفي 910 هـ استولى البرتغال على "أسفي" ، ثم في سنة 911 هـ استولوا على "المعمورة" وفي سنة 914 هـ استولوا على "أزمور".

       وفيما كانت حصون المغرب العربي كله تغتصب وتنتزع من أهلها من قبل أوروبا الصليبية ، كان الوطاسيون والسعديون يتقاتلون على الملك ، وقامت بينهم حروب طاحنة انقسم بها المغرب إلى دولتين، شمالية للوطاسيين ، وجنوبية للسعديين. وتقاتل السعديون فيما بينهم كذلك فقتلوا أقرب أرحامهم ، وفعل ذلك الوطاسيون أيضاً فقتلوا أرحامهم لنفس الهدف.

       وفي سنة 951 هـ ثار الوزير أبوعبدالله الشيخ السعدي على أخيه السلطان أبي العباس الأعرج وخلعه وبويع مكانه ، ثم غزا فاس وأخرج منها الوطاسيين ، ثم غزا تلمسان سنة 957 هـ -وهي عام المسغبة التي كان فيها سيدي أحمد بن علي يطعم المساكين من ماله الخاص في مليانة- وأخرج منها الترك ، وقتل وسفك ، وصادر الأموال والأعراض ، وامتد ملكه بهذا الغزو إلى منطقة الشلف القريبة من مليانة وسط جبال الونشريس. ثم بعد أن تم له الأمر سنة 958 هـ ، أمر بامتحان أرباب الزوايا والأربطة القرآنية والمشايخ ، والتضييق عليهم ومصادرة أموالهم ، خوفاً على ملكه منهم. واتهمهم -خديعة منه- بودائع زعم أنَّ بني زيان وبني مرين تركوها لديهم ، وطالبهم بها تبريراً للبطش بهم ، كما فرض على كل الزوايا والمدارس القرآنية الخراج (النائبة) ، وكان أول من فرضها على أهل المغرب عبدالمؤمن الموحدي، ثم بنوه، ثم بنو مرين، ثم السعديون بدعوى أن أرض المغرب فتحت عنوة، وهي بذلك ملك لعموم المسلمين، كما فعل عمر بن الخطاب بأرض سواد العراق.

       واشتدت المحنة على العامة والمشايخ كذلك بانحباس المطر والجفاف وانتشار الأوبئة وظروف الحرب ، ثم ما لبث الترك أن أعادوا الكرة وانتصروا على أبي عبدالله الشيخ السعدي ، وأخرجوه من المنطقة ، ثم جمع أمره مرة أخرى وهاجم تلمسان وحاصرها فامتنعت عليه فرجع إلى المغرب حيث اغتالته عصابة تركية سنة 964هـ، وفي نفس ليلة قتله ، قام واليه على مراكش بقتل أبي العباس الأعرج المعتقل لديه ، بأمر أخيه السلطان أبي عبدالله الشيخ ، وقتل معه أولاده ذكوراً وإناثاً ، كباراً وصغاراً ، وبقيت جثثهم أياماً مرمية في العراء ، ولم يجرؤ أحد على دفنها ، ثم دفنت في مقبرة الشيخ ابن سليمان الجزولي -رحمه الله تعالى-.

       في هذه الظروف جمع الشيخ أحمد بن علي الدرعي ماله وباع عقاره ومزارعه وغادر مليانة مهاجراً إلى صحراء غريس حيث استقر به المقام في منطقة مهجورة بضاحية زاكورة ، على بعد خمسين يوماً بالجمال إلى " تومبوكتو" مخفياً أصله ومنبته ونسبه ، مؤثراً حياة العزلة بين جمهور من البدو الرحل والمزارعين الذين لم يعرفوا قدره أول الأمر، كما يبدو من الرواية الشفوية التي تروى عنهم لحد الآن، إذ كان يعظهم أول أمره في العراء واقفاً وهم جلوس على التراب ، فلما أخذ منه التعب ، جرَّ إليه جذع نخلة وجلس عليه ، ثم واصل وعظه ، اقتداءً منه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كان له جذع يتكئ عليه أول هجرته إلى المدينة المنورة. وفي اليوم التالي حضر الأهالي إلى مجلس الشيخ وكل منهم يجر جذع نخلة يجلس عليه، ثم ما لبث أن عرفوا فضله وعلمه ونسبه ومقامه، فأحلوه المكانة التي هو أهل لها. ومازال في عرف المنطقة لحد الآن أن كل من يريد زيارة صلحائها وأوليائها يجب أن يبدأ أولاً بزيارة ضريح الشيخ أحمد بن علي الدرعي -رحمه الله تعالى-.

       ولعلّ استقرار الشيخ بهذه المنطقة النائية بالمغرب ، وعدم دخوله حواضرها وعواصمها العلمية والاقتصادية والسياسية ، راجع أيضاً إلى ظروف المغرب الأقصى إذاك، وقد كان يموج بالفتن والتقاتل والتضييق على العلماء والفقهاء والأولياء الذين ضاقت بهم سبل العيش بسبب محاولات الحكام المتصارعين على السلطة تجنيدهم في حروبهم ضد بعضهم ، ففروا إلى البوادي والقرى والقبائل والمداشر والدواوير ، وأربطة العبادة والتدريس في الجبال ، يحاولون حفظ أصل الدين ، وإبعاد العامة عن الفتن ، ومع ذلك لم يسلموا ، ونالهم من الإرهاب والعسف ما لم ينل غيرهم.

       فهذا - مثلاً - الفقيه الأجل أبومحمد الغزواني ، من قبيلة الغزاونة الحمداوية في الشاوية ، المتوفي سنة 935 هـ  دفين حومة القصور بمراكش ، بعد تخرجه من جامعة القرويين ينتقل إلى مراكش ويلازم الشيخ التباع ، فيوشى به لدى السلطان أبي عبدالله البرتغالي (الوطاسي) ، فيقبض عليه ويجعله في سلسلة وينفيه إلى فاس ، ثم عندما يحاول الكسب بفلاحة الأرض في ضاحية فاس ، ويستخرج ساقية ماء لسقي زرعه ينتزعها منه السلطان غصباً.

       والشيخ أبوزيد عبدالرحمن المجذوب، ابن عياد الصنهاجي الدكالي الفرجي، يطارد على طول المغربين -الأوسط والأقصى- فلم تسعه أرض إلى أن توفى رحمه الله تعالى سنة 976 هـ. وتلميذ سيدي أحمد بن علي الدرعي، الولي الصالح الفقيه سيدي عبدالله بن حسين، من شرفاء بني آمغار ، المتوفي سنة 977 هـ، عندما استقر بمراكش، وكثر مريدوه، أمره السلطان "الغالب بالله" بإغلاق بيته ، والإقامة الإجبارية المنفردة فيه ، فأغلقه ولم يفتحه إلاَّ بإذن السلطان ، ثم بعد حين أرسل إليه قائلاً : ( إمّا أن تخرج عني أو أخرج عنك ) فأجابه الشيخ: ( بل أنا أخـرج) ثم خرج من فوره إلى "تامصلوحت" حيث أنسل ذريته ، ومنهم حفيده الولي الصالح أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبدالله بن حسين المصلوحي المتوفي سنة 1072 هـ، الذي فرَّ هو أيضاً من السلطان زيدان إلى سكتانة حيث ضريحه حالياً.

       وفي سنة 955 هـ قتلت عصابة بأمر السلطان أبي عبدالله الشيخ ، العالم الجليل عبد الواحد الونشريسي بعد أن خرج من الدرس في جامعة القرويين مباشرة ، وقطع رأسه وحمل إلى السلطان.

       وفي سنة 980 هـ قتل السلطان الغالب بالله، الفقيه الزاهد، الولي الصالح أبا عبدالله الأندلسي، نزيل مراكش، الذي تبعه العامة، وأخذ عنه الشيوخ ، فاتهم بالمذهب الظاهري وأمر الغالب بقتله ، فاعصوصب للدفاع عنه مريدوه ، وكانت بسبب ذلك ثورة عارمة بمراكش انتهت بقتله وصلبه أمام باب بيته برياض الزيتون بمراكش في أواسط الشهر الحرام (ذي الحجة) من نفس السنة 980 هـ.

       وطيلة عشر سنوات تقريباً (ما بين 970 و 980 هـ) طارد الغالب بالله أتباع الشيخ أحمد بن يوسف الملياني الذين لقبوا بـ"الشراقة"، واعتقل منهم وقتل الخلق الكثير، وأشيعت حولهم الشائعات والتهم والأباطيل.

       وفي سنة 999 هـ -بدل تحرير الثغور من الإحتلال الأجنبي- توجه أحمد المنصور لفتح بلاد المسلمين الوادعة في السودان وقتل من مسلميها الكثير بما فيهم سلطانهم إسحاق سكيه -رحمه الله تعالى-، وسبى الرجال والنساء والصبية ثم ساقهم رقيقاً وهم مسلمون إلى المغرب سنة 1001 هـ مع قطعان الفيلة والحشيش الذي دخل إلى البلاد لأول مرة على يده وانتشر فيها.

       هذه صورة لبعض المحن التي طالت العلماء والفقهاء والقراء في القرن العاشر الهجري عامة، وفي عهد الغالب بالله، المتوفي سنة 981 هـ، وولده الذي تولى بعده محمد المتوكل (المسلوخ) خاصةً ، والتي استشرى فيها القتل بالشبهة ، وانتهاك الأعراض بالهوى، وانتشار الخمر والفاحشة في القصور وبيوت قادة الجيش وأعيان البلاد ، والتفريط في الأرض إلى حد التنازل الطوعي عنها، كما فعل الغالب بالله إذ تنازل عن حجرة باديس على الأبيض المتوسط للنصارى توجساً من خطر الترك المسلمين.

       هذه المحن لم تكن لتؤثر في جهود الدعاة أو تقلل من إقبال الأمة على دينها أو تصرفها عن توجيه أبنائها إلى دراسة القرآن وعلوم الدين ، فقد كان هذا القرن أكثر القرون التي سبقته عدد فقهاء وعلماء وأولياء وصلحاء ، ولكن غالبيتهم هجرت الحواضر، وانتشروا في البوادي والقرى والجبال بعيداً عن أنظار السلطة ورجالها.

       كان في هذا القرن أقطاب للتربية وأعلام للفقه، مثل : الونشريسي صاحب المعيار المتوفي سنة 914 هـ ، والشيخ عبدالحق الحرار التباع دفين حومة الفحول بمراكش ، المتوفى سنة 914 هـ ، والشيخ أبوالعباس المنجور المتوفى سنة 995 هـ، والشيخ محمد الشرقي (أبي عبيد) دفين جعيدان (أبي الجعد) المتوفى سنة 1010 هـ وهو ابن الولي الصالح أبي القاسم الزعري الجابري ، والشيخ أبي العباس أحمد الجزولي السملالي المتوفي سنة 971 هـ. ناهيك عن تلامذة الشيخ أحمد بن علي الدرعي ، وفي مقدمتهم الولي الصالح عبدالله بن حسين ، والولي الصالح محمد بن ناصر الدرعي ، والولي الصالح أبوالقاسم الصومعي الزمراني.

       ولم تكن المذابح ، وضروب العسف والاضطهاد التي طالت أولياء هذا القرن وصلحاءه وعلماءه ، لذنب ارتكبه أحدهم أو خروج على السلطان قاموا به ، وإنما فقط لأنهم لزموا الحياد في حروب الاقتتال على الملك والجاه والمال ، وكان بينهم شبه إجماع على ذلك. ومن اضطر منهم للدخول على الحكام امتنع عن أكل طعامهم. وقد أورد صاحب الاستقصاء (5/48) نموذجاً لهذا الموقف عندما زار السلطان عبدالله الغالب الولي الصالح أبا العباس أحمد السملالي الجزولي ، ودعاه إلى قصره ، وحلف ألاَّ يطعمه إلاَّ حلالاً، فلما حضر الشيخ لم يأكل ، فسئل عن ذلك ، فقال:( من أكل طعام السلطان وهو حلال أظلم قلبه أربعين يوماً ، ومن أكله وفيه شبهة مات قلبه أربعين سنة ).

       أمّا الحالة الاجتماعية في هذا القرن فقد كانت دولة بين المجاعات والأوبئة الفتاكة، وحروب طلاب الحكم، والسيبة، والتقاتل القبلي، ونشاط عصابات قطّاع الطرق وطلاّب الكسب السهل باختطاف أحرار المسلمين نساءً ورجالاً وصبيةً وبيعهم رقيقاً في الأسواق علانيةً.

       لعلّنا بهذا العرض الموجز قد قرّبنا صورة العهد الذي عاش فيه سيدي أحمد بن علي الدرعي ، طالباً للقرآن والعلم ، ومريداً للطريقة الشاذلية في مليانة بالجزائر ، بإشراف وتربية من شيوخه أحمد بن يوسف الملياني، وأبي القاسم الغازي السجلماسي، وعلي بن عبدالله السجلماسي ، ثم شيخاً من كبار أقطاب العلم والعمل والحال ، في الطريقة الشاذلية مهاجراً بعلمه ودينه إلى درعة ، حيث تخرج على يده جيل من العلماء والفقهاء والأولياء، من أمثال سيدي عبدالله بن حسين، وأحمد بن أبي القاسم الزمراني الصومعي، دفين الصومعة ببلاد تادلا (920-1013 هـ)، ومحمد بن ناصر الدرعي، والد مؤسس الطريقة الناصرية، والقاضي محمد الشريف الحسني ....الخ.

       في درعة ، بدأت كرامات الشيخ تبدو للعيان، برغم حرصه على الستر والتخفي، وفراساته تتحقق جهاراً ، ودعواته يستجاب لها ليلاً ونهاراً ، فأطلق عليه العامة لقبه المعروف به لحد الآن " جبار المكسور ".

       لقد كان سيدي أحمد بن علي الدرعي إمام عصره بحق، ولكنه الإمام المخفي، الذي استوعب تجربة أصوله الأوائل في خوض المعارك العنيفة من أجل الدعوة الإسلامية ، ثم أصوله المتأخرين من أجل الملك والسلطة ، وفهم ظروف عصره الذي يموج بالفتن وسفك الدماء. عصره ذي السنين الخداعة ، التي يكذب فيها الصادق ، ويصدق فيها الكاذب ، ويخون فيها الأمين ، ويؤتمن الخائن ، فآثر حياة الظل ، وتربية الخلق في الستر والبعد عن الشهرة والرياء والمصانعة ، والذاتية ، وفي الوقت الذي تحولت فيه الشاذلية لدى شيخه أبي العباس أحمد بن يوسف الملياني إلى "الطريقة اليوسفية" ، ولدى تلميذه محمد بن ناصر إلى "الطريقة الناصرية" بقيت فيه الشاذلية لديه شاذلية اسماً ومسمّىً شكلاً وجوهراً.

       وهذا ما له إثباتات تاريخية من الموضوعية أن نورد بعضها فيما يلي :

1 - كتاب "معجم الفرق والمذاهب الإسلامية" للدكتور اسماعيل العربي من الجزائر ، نشر دار الآفاق الجديدة بالمغرب. ذكر أن سيدي أحمد بن علي الدرعي ، من شيوخ سيدي محمد بن ناصر الدرعي صاحب الطريقة الناصرية ، فقال في الصفحة 363 : (تنتمي الطريقة الناصرية إلى الطريقة اليوسفية ، عن طريق عبدالله بن حسن الرضى، وعلي عبدالله ، والسيد أحمد بن علي الدرعي ).

2 - كتاب " طلوع سعد السعود " لمؤلفه "لاغا بن عودة المزاري" بتحقيق الدكتور يحيى بوعزيز ، نقل في هامش الصفحة 102 من الجزء الأول عن أبي راس في كتابه الحاوي ( أن أبا العباس سيدي أحمد بن علي كان تلميذاً لأحمد بن يوسف الراشدي الملياني وكان يطعم المساكين من ماله الخاص ، خاصة في عامي المسغبة سنتي 958/959 هـ (1551-1552م).

3 - كتاب "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ، وقد أثبت في الصفحتين 50-51 نسبه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكون السيادة والريادة كانت فيه وفي ذريته (انظر النصوص في الصفحة 22 من هذه الدراسة).

4 - كتاب "الإعلام بمن حلَّ مراكش وأغمات من الأعلام" للعباس التعارجي ، الجزء الثاني الصفحة 281 ، أشار إلى سيدي أحمد بن علي الدرعي عند ترجمته لتلميذه أحمد أبي القاسم الزمراني الصومعي (920/1013 هـ) دفين الصومعة بتادلا ، فقال : (أخذ رحمه الله -يعني أحمد الزمراني- عن سيدي علي بن إبراهيم ، وبعد وفاته لازم الشيخ أحمد بن علي الدرعي وكان ممن جمع له بين العلم والعمل والحال ، مع كمال الخصال ، حتى ختم له بذلك).

5 - كتاب "ذيل بشائر الإيمان بفتوحات آل عثمان" لمؤلفه حسين خوجة المتوفي سنة 1145 هـ/1732م ، بتحقيق الطاهر المعموري ، ذكر فيه أن الشيخ محمد الشريف الحسني القاضي كان تلميذا لسيدي أحمد بن علي ، فقال في الصفحة 248 :

( وقرأ الفقه ومختصر خليل على الشيخ أحمد بن علي ....).

6 - كتاب "المسك والريحان فيما احتواه عن بعض أعلام فزان" تأليف الفقيه الشهيد أحمد الدردير بن محمد العالم الحضيري، حققه أبوبكر عثمان الحضيري، وطبعته الشركة العامة للورق في الخمس بليبيا سنة 1996. وقد نشر فيه المؤلف صورة وثيقة تاريخية مخطوطة بها سند شيوخ جده في الطريقة الشاذلية، وضمن رجال السند سيدي أحمد بن علي.

 

       وهذا يوضح ما جاء مجملاً في كتابي "معجم الفرق والمذاهب الإسلامية" ، و"طلوع سعد السعود". وهذا نص الوثيقة بالحروف المطبعية ( انظر صورتها الأصلية مخطوطة في الملحق رقم 9 ) :

       ( أبو عمر سيدي عثمان بن علي الحضيري كان عالماً علامة فقيهاً متكلماً نحوياً عروضياً متفنناً في فنون شتى أخذ الفقه وغيره عن الشيخ الجليل أبي عبدالله محمد الصالح بن حامد الحضيري وأخذ عن الشيخ العلامة أبي عبدالله سيدي محمد بن داوود العناني.

       أخذ الطريقة الناصرية عن شيخه أبي عبدالله سيدي محمد بن محمد بن ناصر الدرعي ، وابن ناصر عن القطب سيدي عبدالله بن الحسين وهو عن سيدي أبي العباس أحمد بن الحاج علي وهو عن شيخه أبي القاسم الغازي السجلماسي وهو عن شيخه علي بن عبدالله السجلماسي وهو عن شيخه أبي العباس أحمد بن يوسف الملياني وهو عن شيخه أحمد زروق وهو عن شيخه أبي العباس أحمد بن عقبة الحضرمي وهو عن شيخه أبي الحسن علي القرافي وهو عن شيخه أبي العباس أحمد بن عطاء الله الاسكندري. وهو عن شيخه أبي العباس المرسي ، وهو عن شيخه أبي الحسن الشاذلي وهو عن شيخه عبدالسلام بن مشيش وهو عن شيخه عبدالرحمن المدني بن الحسن العطار المعروف بالزياتي وهو عن شيخه تقي الدين وهو عن القطب نور الدين وهو عن القطب تاج الدين وهو عن القطب شمس الدين وهو عن القطب زين الدين وهو عن القطب أبي اسحاق ابراهيم البصراوي ، وهو عن القطب أحمد المرواني وهو عن القطب سعيد ، وهو عن القطب محمد فتح السعود ، وهو عن القطب جابر وهو عن أول الأقطاب السيد الشريف الحسيب الصحابي الجليل المرسوم بالسبط أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو عن أمه البضعة الطاهرة السيدة فاطمة الزهراء ، وهي عن سيدنا الإمام علي رضي الله عنه وهو عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو عن روح القدس جبريل عليه السلام وهو عن رب العزة جلّ جلاله. انتهت سلسلة الطريقة الشاذلية).

       هذا هو الفقيه الزاهد ، العالم الرباني ، الذي التزم بالقرآن الكريم علماً وعملاً ، تدريساً وتربيةً ، واعتزل في شعب من شعاب الصحراء ، في أحد سفوح الأطلس الصغير ، على ضفة نهر درعة ، بعيداً عن ضجيج السياسة  والصراع على الحكم والجاه والمال ، وبقي على هذا الحال إلى أن وافاه الأجل المقدر ، فانتقل إلى الرفيق الأعلى ، ودفن بجوار مسجده ومدرسته بخلوته ، في القرية التي سميت باسمه "قرية أولاد الحاج علي" ، ومازال ضريحه يزار ، ضريح "جبار الكسور" كما يسميه العامة.

       وبعد وفاته خلفه في الإشراف على الزاوية أبناؤه  وعلى رأسهم العباس ومحمد ، وساروا على نهج أبيهم التربوي ،" الطريقة الشاذلية " .... جيلاً بعد جيلٍ ، إلى عهد ولاية السلطان المولى اسماعيل، حيث عصفت بقراء الأحفاد وفقهائهم عاصفة المحنة ، ثم الهجرة إلى الشاوية العليا. فما هي أسباب هذه المحنة ، وظروف

هذه الهجرة ؟

  

ظروف الهجرة
من زاوية الشيخ أحمد بن علي في زاكورة

       بدأت سحب المحنة تتجمع في سماء زاكورة ، وتهيئ لهبوب العاصفة التي اقتلعت الأحفاد من مأواهم الذي تركهم فيه جدهم أحمد بن علي الدرعي ورمت بهم إلى الشاوية العليا "بتامسنا" في عهد السلطان المولى اسماعيل الذي حكم المغرب بقبضة من حديد ، ثم وزع ولايات البلاد على أولاده ، فكانت منطقة "سوس" و"درعة" من نصيب ابنه عبدالملك أبي مروان، عقد له عليها أبوه سنة 1111 هـ، وأنزله بقصبتها ، ورتّب له فيها ثلاثة آلاف من الجند.

       وكانت الزاوية القرآنية الدرعية آنذاك تحت إشراف أحفاد الشيخ ، وهم عبدالله (كبيرهم) ، وأخواه بوزيان والتاغي ، أبناء العايدي بن الشرقي بن محمد ، بن أحمد بن علي الدرعي ، مع أبناء عمومة لهم.

       وفي سنة 1139 هـ احتضر المولى اسماعيل ، فاستنصح وزيره وفقيه قصره أبا العباس اليحمدي ، في أمر ولاية العهد (الاستقصاء 7/100) ، وقال له : ( إني في آخر يوم من أيام الدنيا ، فأحببت أن تشير علي بمن أقلده هذا الأمر من ولدي ، لأنك أعرف بأحوالهم مني ). فقال اليحمدي : ( يا مولانا ، لقد كلّفتني أمراً عظيماً، وأنا أقول الحق ، إنه لا ولد لك تقلده أمر المسلمين ، كان لك ثلاثة ، المولى محرز ، والمولى المامون ، والمولى محمد، فقبضهم الله إليه ). فقال له السلطان : ( جزاك الله خيراً ) ، وودعه وانصرف. ولم يعهد السلطان لأحد ، فكان العبيد - عبيد البخاري - هم الذين يقدمون من شاؤوا ، ويؤخرون من شاؤوا.

       بعد وفاة المولى اسماعيل ، اقتسم أبناؤه المغرب بينهم غلابا ، ونشبت بينهم حروب رهيبة ، إلى حد أمر فيه عبدالملك بن اسماعيل بِسَمْلِ عيني أخيه أحمد عندما أسره. ولكن أحمد فرّ من سجنه وجمع أمره ثانيةً وحارب أخاه عبدالملك وانتصر عليه وأعطاه الأمان على نفسه فاستسلم له ومرض أحمد بعد الانتصار مباشرة وأيقن الموت فأمر بقتل أخيه عبدالملك الأسير لديه فقتل قبل وفاته بثلاثة أيام

سنة 1141هـ.

       ثم بعدها بويع أخوهما الثالث عبدالله بن اسماعيل ، فاضطر لخوض حروب طاحنة لإخضاع مختلف مناطق المغرب ، مثل قبائل تادلا ، والأطلس وملوية ، وآيات يمور  وزيان ، وفازاز... الخ وهدم مدينة الرياض بمكناسة ، وحاصر فاس ، وقطع عنها الماء وأحرق زرعها وقطع أشجارها وأطلق يد جيش العبيد فيها بالعيث والفاحشة ، ورماها بالمنجنيق وأحرق أبوابها ، وهدم باب المحروق ، وباب الفتوح ، وباب الجيسة ، وباب بني مسافر ، وباب الحديد ، وهدم سورها ، وقتل أعيانها ، وجرهم في سككها وطرقاتها. ثم كانت نهايته على يد جيش عبيده الذين ثاروا عليه سنة 1147 هـ ففر ليلاً إلى أخواله "المغافرة" بوادي نول ، وبايع العبيد أخاه عليا ، الذي قرر بدوره إخضاع المغرب بالقوة مرة أخرى ، فاستولى على فاس ، ثم نهض بجيش عبيده إلى جبال فازاز لإخضاع أهلها ، ولكنهم هزموا العبيد شر هزيمة ، وترفعوا عن قتلهم أو أسرهم ، فجرّدوهم من ملابسهم وساقوهم إلى السلطان عراة كما تساق البهائم.

       واستغل أخوه الهارب "عبدالله" الفرصة فأعاد الكرة وثار ، واعتقل أخاه علياً ، ثم نفاه إلى "تافيلالت" ، حيث وافته منيته هناك. ثم خلع العبيد عبدالله ، وبايعوا أخاه محمداً سنة 1150 هـ ، وكان عهده أيضاً عهد شدة ومجاعة وهرج ، إذ أطلق أيدي العبيد في أموال المواطنين نهباً واغتصاباً بعد أن عجز عن أداء رواتبهم ومستحقاتهم المالية ، فأخذوا في نهب الدور والحوانيت والأهرية والمطامير ، ومصادرة مخازن أهل البادية ومزارعهم، فعمّ الظلم وهيمنت الفوضى.

 

 

أسباب الهجرة

        ينتهي مقام أحفاد الشيخ أحمد بن علي بزاكورة في عهد السلطان عبدالملك بن اسماعيل أبي مروان ، الذي حاول تجنيدهم في صفه لمحاربة إخوانه على الملك ، بنموذج فذ من الفدائية والثبات على المبدأ ، والتماسك العائلي ، نادر المثال.

       كما تبتدئ حياتهم في مهجرهم الجديد بالشاوية العليا في " تامسنا" بنموذج آخر فذ ، من الشهامة والنصرة والمروءة.

       فما النوذجان ؟

 

 

النموذج الأول

الفدائية والثبات على المبدأ

        بعد وفاة السلطان المولى اسماعيل سنة 1139 هـ أدى الصراع بين أبنائه حكام الولايات ، إلى محاولة الاستكثار في الجند والأنصار بتجنيد الفقهاء والعلماء والأعيان لتحريض العامة.

       وهنا بدأت محنة آل الشيخ في زاويتهم القرآنية ، بكبيرهم عميد القرية ، مسموع الكلمة فيها الشيخ عبد الله بن العايدي بن الشرقي بن محمد بن أحمد بن علي الدرعي.

       طلب منه سلطان درعة عبد الملك بن اسماعيل أن يلتحق طلبة الزاوية بجيشه ، لمقاتلة أخيه أحمد سلطان فاس ، فكان جواب الشيخ عبد الله : ( نحن مشتغلون بتدريس كتاب الله تعالى ، والمقاتلة في صفك تتوقف بها دراسة القرآن ، والقرآن مقدم على أي شيء ) فطلب منه تحريض العامة على التطوع في الجيش ، فأجاب الشيخ عبد الله: (دونك العامة، ادعهم بنفسك ، وقد نهينا من طرف جدنا أن ننشغل بغير القرآن الكريم ) فما كان من السلطان إلاّ أن استشاط غضباً ، وأمر باعتقال الشيخ عبد الله ، رهينة عنده إلى أن يستجيب لطلبه.

       بلغ الخبر أخاه الأصغر "بوزيان" ، وكان من العباد الزهّاد ، فذهب مغضباً إلى السلطان "عبد الملك" وخاطبه بجفاء : ( أطلق سراح أخي عبد الله ) فأجاب السلطان مستهزئاً به : ( وما دليلك على أنه أخوك ؟ ) .

قال بوزيان : ( إنه أخي وابن أبي ، الله يشهد ، والخلق يشهدون ).

قال السلطان : ( إن كان أخاك حقاً فقدّم فداء له )

قال بوزيان : ( أفديه بكل ما تطلب من مال )

قال السلطان : ( بل قدّم لي إحدى عينيك فداءً له )

وما إن سمع بوزيان ذلك ، حتى مدّ يده بتوتر إلى إحدى عينيه فاستلها، والدم ينزف على وجهه وقدّم المقلة إلى السلطان.

        شده عبد الملك لما رأى، وكاد ينهار، ولكنّه تماسك وقال  له: ( أعطيك أخاك ، على شرط أن تخرجوا عني من مملكتي إلى حيث لا أسمع أخباركم، وخذوا معكم ما تملكون).

       هكذا خرج بعض أعيان آل الشيخ من فقهاء الزاوية ، وعددهم سبعة ، عبد الله الذي اختصر اسمه بعد الهجرة إلى "عبو" أو "عبده"، وأخواه بوزيان، والتاغي، والجيلاني بن التاغي ، وعمّان آخران لهم لم تذكر الرواية الشفوية المتوارثة اسميهما ، أحدهما هو جد بطن "العسيلات" من حمداوة الشاوية حالياً ، والثاني اندمج في الغزاونة، بطن من حمداوة استوطن الشاوية جوار قبيلة المذاكرة ، قبل هجرة آل الشيخ أحمد بن علي إليها ، فشاع خطأ أنه جد الغزاونة. كما كان معهم ابن عم لهم اسمه "البداوي" يعد جداً للبداوات ، بطن من بطون حمداوة حالياً في الشاوية.

       وإذا كان الحكيم الخبير -سبحانه وتعالى- قد أراد لحرث الدعوة الإسلامية أن يكون في زاكورة وصحرائها ونهرها على يد الفقيه سيدي أحمد بن علي الدرعي وأبنائه ، فإنه أراد كذلك أن تتواصل هذه الدعوة في نفس المنطقة على يد ذرية تلميذه ومريده سيدي محمد بن ناصر الدرعي وذريته ، وأن ينتقل بعض من ذرية الشيخ المؤسس ( أحمد ابن علي الدرعي) إلى مكان آخر في حاجة إلى دعوة وإرشاد، هو الشاوية العليا -العلوة- ليكون الحرث والزرع بها ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمـــْرِهِمْ "الأحزاب 36".

 

 

النموذج الثاني

استضعاف المأوى وشهامة النصرة

        قصد ركب الهجرة الجديد المكوّن من سبعة رجال مع نسائهم وصبيتهم وأموالهم نقداً وإبلاً وأغناماً ، بلاد الشاوية العليا - العلوة- ، بأرض " تامسنا" ، وكان لهم فيها رحم ، أبناء عمومة لهم سبقوهم للهجرة إليها ، هم الغزاونة، عرفوا بالتقوى والعبادة والورع ، وأنجبوا أحد أولياء الله الصالحين ، هو أبو محمد عبد الله الغزواني دفين حومة القصور بمراكش " الاستقصاء 4/146".

       كما كان لآبائهم علاقة صداقة وطيدة مع بطن من بطون قبيلة أولاد زاير العربية الحميرية المشهورة بنجدتها وشجاعتها واستماتتها في جهاد الفرنسيين والإسبان، والوافدة إلى الشاوية العليا من موطنها الرئيسي حول نهر تافنة، قريباً من وهران بجوار قبيلة أولاد خالف.

       ونظراً لظروف استضعاف الأسرة المهاجرة فضّلت النزول أول أمرها بجوار كبير أولاد زاير ، الشيخ عمرو الزايري ، وهو جد قبيلة أولاد عمرو حالياً -عمراوة-. فآواهم وأكرمهم ، ومهّد لهم سبيل الاستقرار ، احتراماً منه لنسبهم الشريف، ولعلاقات الأجداد ببعضهم ، ولما يحملونه في صدورهم من كتاب الله. وبلغت علاقات الأخوة والوئام بين الطرفين حداً أرضعت نساء الأسرتين صبية بعضهن ، فتوطدت المحبة والمودة بتآخي الصبية بألبان الأمهات.

       لكنّ الفوضى التي كانت ضاربة أطنابها في المغرب آنذاك ، أطمعت بعض قطاع الطرق من القبائل المجاورة في أموال الأسرة المهاجرة ، وعزموا على نهبها ليلاً ، وحسب العرف القديم كان حتماً أن يخبروا بذلك مضيف الأسرة ( الحاج عمرو الزايري ) ، كيلا ينبري للدفاع عنها أثناء الغارة ليلاً ، وأن يأمروه بالتناوم وغضّ الطرف عن الفاعلين ، فامتثل لأمر العصابة ، وجمع نساءه وأبناءه وأقاربه وأعوانه وعبيده ، وأخبرهم الخبر ، طالباً منهم التناوم ليلاً ، وترك الأسرة المهاجرة لمصيرها. إلاَّ أن إحدى نسائه صاحت به أمام الملإِ قائلةً : ( كيف تغدر بضيوف الله وقد استجاروا بك ؟ كيف تغدر بهم وقد أرضعت نساؤهم أبناءك فهنّ أمهات أبنائك ، وأزواجهن آباء أبنائك من الرضاع ؟ وقد أرضعت أبناءهم فأنا أمّ أبنائهم وأنت أبوهم من الرضاع ؟ اتقِ الله يا عمرو ، ولا تفعل ما يشين وجهك أمام الله ).

       ما إن سمع الحاج عمرو كلام زوجته حتى أجهش في البكاء ، واستغفر، وأمر أبناءه وأقاربه وأعوانه وعبيده بأن يحملوا أسلحتهم ، ويضربوا ليلاً سوراً من الرجال حول الأسرة المهاجرة ، للدفاع عنها عند الغارة.

       وما إن انتصف الليل ، وانطلقت أولى رصاصات المغيرين حتى ردّ عليهم رصاص آل الزايري فرجعوا على أعقابهم خائبين.

       وفي الصباح جاء أعيان المغيرين إلى الحاج عمرو وحاكموه أمام مجلس الجماعة ، فحكم عليه بحلق لحيته ومن ثم أطلق على أبنائه لقب "أولاد محلوق اللحية" ، فكانوا يفتخرون بذلك ويرددون : ( حلقت لحية أبينا لشهامته ونجدته ووفائه ).

       هذه بعض ملامح ظروف هجرة أحفاد الشيخ أحمد بن علي إلى الشاوية في القرن الثاني عشر الهجري ، وما عانوه من محن امتدت إلى أوائل القرن الثالث عشر الهجري. ولم يكونوا وحدهم في هذه الشدائد ، فقد طالت كذلك أغلب علماء الأمة وفقهائها وصلحائها ، وفي مقدمتهم:

الشيخ محمود الشنقيطي ، الذي قتله السلطان المولى محمد بن عبد الله سنة 1175 هـ

والشيخ عمر من ذرية سيدي رحال ، الذي قتله نفس السلطان سنة 1181 هـ

والشيخ أحمد بن ناصر الدرعي ، المتوفى سنة 1129 هـ

والشيخ محمد الصالح، المتوفى سنة 1139 هـ من ذرية سيدي محمد الشرقي (أبو عبيد)

والشيخ أبو الحسن اليوسي ، المتوفى سنة 1102 هـ

والشيخ الغزواني ابن البغدادي ، من أحفاد سيدي محمد الشرقي (أبي عبيد) المتوفى سنة 1143 هـ

والشيخ محمد الصالح بن محمد المعطي بن عبد الخالق بن محمد الشريف، المتوفى سنة 1139 هـ

 

       واستمرت الظروف على حالها إلى أوائل القرن الثالث عشر الهجري -عصر الفقيه أحمد التاغي الحمداوي- حيث عانت البلاد كلها من حروب السلاطين الإخوة الأربعة على الملك ( سليمان بن محمد بفاس ، ومسلمة بن محمد ببلاد الهبط ، ويزيد ثم أخوه هشام بن محمد بمراكش وبلاد الحوز ) ، ومن ثورة عبد الملك بن إدريس ابن عم السلاطين الأربعة ، وصهرهم على أختهم ، مستعيناً بقبائل الشاوية، فهزمه السلطان المولى سليمان عام 1210 هـ.

       كما عانت البلاد أيضاً من المجاعات والأوبئة ، مجاعة سنة 1266 هـ التي أكل الناس فيها الجــيف وعــرف بعــام "الخبيـزى" ، وعــام "يرني"، ووبــاء سنوات 1271 هـ و1285 هـ و 1295هـ ، وثورات الجيلاني الروكي سنة 1278 هـ، وقبائل تادلة، والسماعلة، وزمور ، وأبي الجعد ، وبني عمير ، وورديغة ، وبلاد درعة، وهجوم الفرنسيين على سلا سنة 1268 هـ ، وهجوم الإسبان على تطوان واستيلاؤهم عليها سنة 1276 هـ.

       وفي هذه الفترة أيضاً نال الاضطهاد في المغرب والجزائر على السواء ، أتباع الطريقة الدرقاوية ، فاعتقل في المغرب أبوعبد الله العربي الدرقاوي الذي قضى فترة ولاية المولى سليمان في السجن. ومارس باي الجزائر "محمد الكبير" ضروباً وحشية من التقتيل والتعذيب في أتباع هذه الطريقة كدق عظام المتهم حياً بالمعاول في السوق إلى الموت ، وبقر البطون والذبح والخنق ، حتى صار الرجل إذا اتهم بالدرقاوية يتبرأ من الشهادتين كي ينجو. وقد أُتِىَ بِرجل إلى الباي -كما ورد في طلوع سعد السعود 1/329- على أنه درقاوي ، فقال : ( وحق سيدي دح بن زرقة ، منذ عقلت لم أقل " لا إله إلاّ الله " إلاَّ على ما قال الراوي ) فضحك الباي وأطلق سراحه.

  

المهاجرون الجدد

ونشوء قبيلة حمداوة في الشاوية

        بعد أن استقر المقام بالأسرة المهاجرة أخذوا في تنمية أموالهم ، فبارك الله لهم فيها وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة "النساء 100". ثم اشترى كل منهم مزرعة وحقلاً في ناحية ، اشترى عبد الله (عبو) حقول "زيو" في الطريق إلى الكارة وقبيلة المذاكرة ، واشترى بوزيان حقولاً بعين الضربان ، حيث توجد حالياً قبور عبد الله وبوزيان والجيلاني بن التاغي التي يطلق عليها العامة "الجدود". وعكف كل منهم على نهج أجدادهم في تعليم القرآن والكسب الحلال من فلاحة الأرض، فما لبثوا أن أغناهم الله من فضله ، وتكاثرت ذريتهم ، وأحبّهم العامة ، وتكوّنت من ذريتهم بالتدريج بطون قبيلة حمداوة في هذه المنطقة.

فالتاغي: هو جد بطون: العرايبية، العزايزية، الدحامنة، أولاد بن الشرقي، أولاد بن التاغي.

وبوزيان: هو جد بطون : أولاد زهرة بوكركوح ، أولاد زهرة موالين الكعدة ، أولاد ريمه ، الصغارنية ، العبادلية.

وعبد الله (عبو) ، أعقب خمسة من الذكور هم :

              1 - أحمد ، جد بطن أولاد عبو.

              2 - بَرَّحُّو ، جد بطن أولاد " بَـرَّحّو "

              3 - الظريف ، جد بطن أولاد الظريف

              4 - عمر ، جد بطن أولاد ابن عمر

              5 - سلوم ، جد بطن أولاد سلوم

      كما التحق أحد أعمامهم المهاجرين معهم ببطن الغزاونة واندمج فيهم، واشتهر عند العامة أنه جدهم. وأنسل الثاني من أعمامهم بطن "العسيلات" ، والثالث من أبناء عمومتهم "البداوي" بطن "البداوات".

       ثم تفرع عن هذه البطون كافة البطون الحمداوية الأخرى في الشاوية العليا ، واندمجوا مصاهرة وتعاوناً ، ودفاعاً مشتركاً ضد الاحتلال الأجنبي مع إخوانهم من مختلف بطون قبيلة "مزاب" الكبيرة التي يطلق عليها "خمس أخماس" ، وصار المزابيون وحمداوة لا تكاد تميز بعضهم عن بعض ، جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. حتى إن المرحوم الحاج التاغي بن المعطي من ذرية الشيخ أحمد التاغي عندما ترشح لانتخابات أول برلمان مغربي في عهد الإستقلال حصد أكثر من تسعين في المائة من أصوات الناخبين من مزاب وحمداوة ، وتوزع عدد أقل من عشرة في المائة الباقي بين مرشحي جميع الأحزاب المشاركة بما فيها حزب الاستقلال وأحزاب الحكومة.

    وإذا تتبعنا طردياً نسب الحاج أحمد التاغي -صاحب الزاوية- من جده الأول بالشاوية (عب الله ، عبو) ، دفين عين الضربان ، نجد أن أحمد بن عبد الله (عبو) قد خلّف من الذكور خمسة هم :

1- - بوعزة ، جد المخاترية (أولاد الحاج المختار بن العربي بن بوعزة) ، وهم الحاج العربي وولداه: الحاج مصطفى والحاج محمد. ثم أخوه السيد الميلودي وأولاده:السيد زروال والسيد المختار والسيد الكبير. ثم أخوهما السيد محمد وولداه : الحاج حمو ، والحاج المعطي.

2 - المسعود ، جد المساعدية ، وهم ذرية العربي بن المسعود ( دفين مقبرة سيدي أبو بكر في "زيو" ) ، وأخيه الحاج أحمد التاغي بن المسعود صاحب الزاوية.

3 - الطاهر ، جد الطواهرية.

4 - دحمان (اختصار لدى العامة للإسم عبد الرحمن )، جد الدحامنية.

5 - المكي ، جد أولاد القايد.

       أمّا الحاج أحمد التاغي بن المسعود ، صاحب الزاوية فله من الولد سبعة هم :

              المعطي ( البكر ) ، ومحمد ، والطاهر ، والعباس ، والعربي والجيلاني ، وحمود ( ينطقه العامة : حمو ) .

       وخلف المعطي (عميد الزاوية بعد وفاة والده): إدريس (البكر) ، وعبد السلام ، ومحمد.

       وخلّف إدريس ( عميد الزاوية بعد والده ) المتوفى كما هو مدون على قبره في يوم الجمعة 22 رمضان 1308 هـ ، الموافق لفاتح مايو 1891م ، ستة ذكور هم :

1 - الكبير ( البكر عميد الزاوية بعد وفاة والده ) ولم يعقب ذكوراً.

2 - الصغير قتل سنة 1907 في حرب الدفاع عن الدار البيضاء وخلف ولداً واحداً مات رضيعاً.

3 - المعطي ، وخلّف ثلاثة ذكور هم : التاغي ، المعطي (ولقبهما العائلي : التاغي ) ، ثم الصغير ( ولقبه العائلي عدنان ).

4 - المهدي ، وخلّف ولداً واحداً هو محمد ( لقبه العائلي مطيع ).

5 - الشرقي ، وخلّف ستة ذكور هم : عبد العزيز ، عمر، عبد الواحد ، عبد الصمد ، مصطفى ، محمد ( ولقبهم العائلي التاغي ).

6 – عبد الرحمن ، وخلّف ولداً واحداً هو محمد (لقبه العائلي : التاغي).

 

       فتكون بذلك ألقاب الأسر المتفرعة عن الحاج إدريس بن الحاج المعطي بن الفقيه الحاج التاغي ، والتي توارثت منذ قرنين عمادة الزاوية هي: عائلة التاغي ، وعائلة عدنان، وعائلة مطيع .

  

خاتمـــــــة

        وبعد ، فهذه دراسة موجزة لشريحة من المجتمع المغربي العربي المسلم ، في رباط واحد من أربطته القرآنية المنتشرة عبر التراب المغربي كله ، لم ألتزم فيها منهجية البحث الأكاديمي الصرف لعدة عوائق لا تخفى على اللبيب ، منها عدم القدرة على الانتقال إلى كثير من مظان المراجع الشفوية والمدونة ، مطبوعة ومخطوطة. ومنها تمسك الأسر والعائلات الشديد ، بما لديهم من وثائق تاريخية يظن بعضهم أن في إخفائها والتمسك بها فائدة. خاصة عقود الزواج والطلاق والبيوع والرهون ، ومختلف أنواع المعاملات التي لم تعد تنفع إلاّ في إثبات تواريخ وأحداث وعلاقات اجتماعية ، وتطورات أعراف وتقاليد ، قد تزيد البحث عمقاً ودقة ووضوحاً ، وتزيد التماسك الاجتماعي قوةً ومتانةً، وترفع مستوى الشعور بالوحدة الوطنية إلى مصاف الجسد الواحد.

           ولعلّ مما يساهم في تحقيق هذا الهدف أن تنبري كل منطقة - وضمنها منطقة ابن أحمد - إلى تأسيس مكتبة تراثية إقليمية يمدها المواطنون بما لديهم عن منطقتهم من وثائق ومخطوطات وتراثيات ، ويعمل بها الباحثون المتطوعون من أبناء الإقليم على الدراسة والبحث والتنقيب وتوثيق التواريخ والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنضالية. وإحصاء شهداء الجهاد ضد الاستعمار سواء عند احتلال الدار البيضاء ، أو في معارك المقاومة سنوات 1953 - 1954 - 1955 ، ووضع قوائم بأسماء المقاومين، والشهداء، والمفقودين ، والجرحى ، ومعارك الجهاد.

 

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه والتابعين

 

 

الملاحـــــق

 

الملحــــق 1

 

 

 

 

 

 

 

 

الملحــــق 2

 

 

 

 

 

 

 

 

الملحــــق 3

 

 

 

 

 

 

 

 

الملحــــق 4

 

مقتطف من مقال نشرته مجلة دعوة الحق التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية في العدد الأول من سنة 1962م .

 

 

عنوانـــــه :

  

من الحلقات المفـقـودة في تاريخ المساجد المغربية

 للأستاذ محمد الحمداوي


 

".... وهذا أحد تلك المساجد المجهولة التي أسسها أحد صلحاء هذه الأمة الذاهبين ، ورجالها الذين آتوا مالهم يتزكى وما لأحدٍ عندهم من نعمةٍ تجزى إلاَّ ابتغاء وجه ربهم الأعلى ، فأدوا لأمتهم ولدينهم من خدمات ما أدوا ، ثم انتقلوا إلى ربهم وهم أولئك الجنود المجهولون.

اكتب تاريخ هذا المسجد مساهمة مني لوزارة الأوقاف فيما أرجو أن توفي فيه من أداء هذا الواجب ، وتأدية لما علي من دين نحو هذا المسجد الذي في ساحته كان مسقط رأسي ، وفيه حفظت كتاب الله ، وفيه تعلّمت كما تعلّم الكثيرون من أبناء هذه الأمة الذين سلكوا طرق القبائل إلى هذا المسجد يطلبون العلم والتعلم ما شاء الله أن أتعلّم من مختلف العلوم الإسلامية التي كانت تدرس في هذا المسجد وقتذاك.

 

مؤسس المسجــد

مؤسس هذا المسجد هو جد جميع أبناء الزاوية التاغية الفقيه أحمد التاغي الحمداوي المتوفى ما بين سنة 1268 هـ - 1276 هـ ، كما يعلم ذلك من ظهير التوقير والاحترام المسلم إليه من قبل السلطان محمد بن عبد الرحمان وهو ولي عهد ، وظهير التوقير والاحترام المسلم لأولاده بعد موته من قبل هذا السلطان وهو سلطان ، ولد الشيخ في فخذ أولاد عبو من قبيلة حمداوة حيث نشأ وحفظ القرآن بالقراءات السبع ثم اتصل بالشيخ العربي بن المعطي الشرقاوي وأخذ عنه طريقة التصوف واتخذه شيخاً له يكثر من زيارته ويشاوره في كل مهامه ، وقد كان لهذه الصحبة أثر في شروع الشيخ أحمد التاغي في الإرشاد والتعليم لمختلف الطلبة والأتباع الواردين عليه من جميع جهات المغرب. وقد كان يتكفل بإطعامهم وإسكانهم وتعليمهم ، مما جعل الكثير من قرابته يعاديه من أجل ذلك بحجة أنه يحسن إلى الغرباء ويترك الأقربين ، وقد حملته مضايقة أقاربه لطلبته على الرحيل إلى بلدة " طاع الله " على الحدود بين قبيلة حمداوة والمذاكرة حيث اشترى ملكاً نزل فيه مع طلبته واستمر هناك يعلم ما شاء الله أن يستمر ، إلى أن رحل إلى المكان الذي هو موضع الزاوية التاغية الآن على بعد نحو ثلاثة كيلو مترات جنوب قصبة ابن أحمد ، وهناك أسس مزرعته وبنى مسجده وانسل ذريته ، واستمر يعلم القرآن بالقراءات السبع للواردين عليه من مختلف القبائل المغربية حتى لقى ربه ، وقد كان لهذا الشيخ حظوة لدى السلطان عبد الرحمان بن هشام حيث تعرف عليه في إحدى رحلاته إلى مدينة أبي الجعد مع عمه السلطان سليمان حين وجده هناك صحبة الشيخ العربي بن المعطي ، والمتواتر لدى المسنين من حفدته أن السلطان عبد الرحمان بن هشام هو الذي أعانه إعانة كبرى على بناء مسجده بالشكل الذي هو عليه الآن حيث يحتوي على مسجد للصلاة والتدريس ، وخمسة بيوت لإسكان الطلبة بقطع النظر عن التجديد الذي كان يباشر به خلال السنوات الفارطة. وبيدي الآن ظهير التوقير والاحترام وإسقاط الكلف الذي سلّمه إليه هذا السلطان سنة 1250 ، وقد جاء هذا الظهير بلفظ : " .... أسقطنا على ماسكه الأستاذ السيد أحمد التاغي جميع الكلف المخزنية والوظائف السلطانية ، فلا يطالب بقليل منها ولا كثير لاشتغاله بإقراء الطلبة وتصدره للأخذ عنه قراءة السبع المشاهير ".

ولما توفى الشيخ تولى أولاده رعاية المسجد والإنفاق عليه وعلى الطلبة كما تولى التعليم من بعده ابنه الفقيه السيد المعطي ، ولما توفى هذا تولى الإشراف على المسجد بعده ابنه السيد الحاج إدريس بن المعطي المتوفى سنة 1308 هـ، وفي عهد هذا تأسست الدروس العلمية بهذا المسجد ، حيث أرسل إلى فاس لتلقي العلم والرجوع إلى نشره بعد التحصيل بعثة علمية متركبة من ابنه الفقيه السيد الحاج الصغير وأربعة من أبناء أعمامه هم الفقيه السيد أبو شعيب بن محمد ، والفقيه السيد محمد بن الجيلاني ، والفقيه السيد الحاج محمد بن محمد ، وحين أنهى أفراد هذه البعثة تحصيلهم العلمي في فاس رجعوا إلى زاويتهم هذه وتصدروا لتدريس العلوم الإسلامية التي تخرجوا فيها على كثير من علماء القرويين في ذلك الوقت ، وعلى الأخص منهم العلامة النوازلي السيد المهدي الوزاني الذي كان يزور الزاوية التاغية في كثير من الأحيان ، ويحيى فيها بزيارته مجالس ومذاكرات علمية ، وبهذا أصبحت الزاوية التاغية ذات شهرة علمية في كثير من القبائل المغربية يتوارد عليها الطلبة من مختلف الجهات يسكنون ويطعمون ويتعلمون ، وقد أدركتُ - حين أنهيتُ حفظ القرآن وأخذتُ أتعلّمُ العلم - من شيوخ العلم بهذه الزاوية شيخنا الفقيه القاضي الحاج العربي المتوفى سنة 1359 هـ ، وشيخنا الفقيه الحاج محمد بن محمد بن الحاج بن عباس المتوفى سنة 1363 هـ ، وشيخنا الفقيه السيد أبوشعيب المزمزي، وشيخنا الفقيه السيد أبوشعيب الإبراهيمي ، وقد كانت الحصص اليومية التي كانت تعطى فيها دروس العربية والفقه والفرائض والتوحيد والمنطق ست حصص في اليوم ، وفي هذا المسجد حذقتُ كما حذق رفقائي في الدراسة في ذلك الوقت مقدمة ابن اجروم وأتممتُ دراسة ألفية بن مالك وجزء العبادات ومعظم جزء البيوع من مختصر خليل وعلم الفرائض من مختصره ومتن ابن عاشر، وجزءاً كبيراً من المنطق.     وقد كان يقوم بتدريس هذا الفن الأخير شيخنا القاضي الحاج العربي ..........................

ومسجد الزاوية لايزال يؤوي الآن الكثير من الطلبة المهاجرين إليه لحفظ القرآن على يد من لايزال يشتغل بتحفيظه من الحفظة هناك ، أمّا دراسة العلم فقد انقطعت مع الأسف بهذا المسجد منذ زمان ، وذلك بموت العلماء وهجرة أبنائهم الآخرين إلى المدن تبعاً لتغير الأحوال وتبدل الظروف .............."

 

 

 

 

 

 

 

 

الملحــــق 5

 

 


 

الملحــــق 6

 

 

 


 

 

الملحــــق 7

 

 
 

الملحــــق 8

 

 

 
 

 

 

الملحــــق 9

 

سند مشايخ سيدي أحمد بن علي الدرعي ( أبي العباس ) في الطريقة الشاذلية ، من مخطوطة تاريخية نشرت في كتاب " المسك والريحان فيما احتواه عن بعض أعلام فزان " الصفحة 311 ، تأليف الشيخ المجاهد الشهيد أحمد الدردير الحضيري ، أحد علماء القرن الثالث عشر الهجري، حققه أبوبكر عثمان الحضيري ، وطبع بمطابع الخمس في الجماهيرية الليبية العظمى سنة 1966

 


 

 


 


 

الملحــــق 10

 

 

مقتطفات من البرنامج المرئي الذي أنجزته الإذاعة والتلفزة المغربية بتاريخ 30/03/1996 وبثته بتاريخ 15/04/1996

بعد أن تحدثت منجزة البرنامج المرئي عن دائرة "ابن أحمد" وأصول سكانها ، وموقعها بين ورديغة وأولاد عبدون في الشرق ، ودائرة سطات في الغرب، والمذاكرة وأولاد حريز في الشمال الغربي، وزعير في الشمال الشرقي ، ثم عن قبائلها وأوليائها وصلحائها تطرقت إلى قبيلة حمداوة فقالت :

( ... ما يميز هذه الجماعة هو احتضانها لإحدى أهم مدارس التعليم الأصيل ، ويحب الأهالي تسميتها بقرويي "مزاب". نظراً للدور الذي لعبته في مجال الإشعاع الديني والثقافي بالمنطقة. إنها زاوية سيدي الحاج التاغي التي أسست في أوائل زمن السلطان مولاي عبدالرحمن ، من طرف الولي الصالح سيدي الحاج أحمد التاغي بن مسعود بن أحمد بن عبو الحمداوي ، في العقد الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ، وجعلها مركزاً لدراسة العلم الأصيل ، حفظ القرآن ، والمتون ، والسنن، وموطأ الإمام مالك ، والأجرومية ، وغيرها من الدراسات الإسلامية التي سهر على تلقينها للطلبة مجموعة من الأساتذة العلماء من خريجي القرويين من أشهرهم الفقيه أبوشعيب بن محمد ، والسيد العربي بن محمد. وقد تتلمذ عليهم عدد من الطلبة ، من دكالة ، أمثال مولاي الطاهر القاسمي ، وانقطع للدراسة بها العديد من أفواج الطلبة القادمين من أولاد حريز والمزامزة ، وبني مسكين والمذاكرة. وتذكر بعض المصادر أن الشيخ المهدي بناني درس بها لفترة يسيرة.

تخرج من زاوية الحاج التاغي ما يقارب ثمانية آلاف طالب ، منهم من التحق بجامعات التعليم الأصيل ، ومنهم من اشتغل خطيباً أو واعظاً أو مدرساً للقرآن.

وقد ترك الفقيه التاغي وصيةً لأبنائه وحفدته يأمرهم فيها بالإحسان إلى الطلبة الوافدين على الزاوية وإكرامهم ومحاولة إشعارهم أنهم بين أهلهم وذويهم. جاء في الوصية: ( فلا تنقطع عنهم المؤن ، ولا يصاب أحد بأذى ، ولا يهان. وشجعوهم على الإقبال المستمر على حلقات الدرس. ولا تتساهلوا معهم إذا تهاونوا أو أبدوا نوعاً من التهور ).

عرفت الزاوية فترات إهمال بعد وفاة الشيخ إلاّ أن السلطات الإقليمية تداركتها في السنين الأخيرة ، وتحاول جاهدة مساعدة المشرفين عليها لإستعادة أمجادها ).

ثم أجرت منجزة البرنامج لقاءً مع الأستاذ عبدالكبير الأفغاني، وهو ابن الشيخ العابد الزاهد الفقيه المعروف ب"الفقير أحمد " رحمه الله تعالى .

وكان مما صرّح به للتلفزة المغربية :

- الأستاذ الحاج أحمد التاغي بن مسعود - رحمه الله تعالى- أسس هذه المدرسة ، وكوّن مجموعة من الطلبة وبعث بهم إلى مدينة فاس. وبعد تخرجهم أصبح منهم قضاة وعدول وكتاب ضبط وأساتذة جامعات. والآن حيثما اتجهت في سائر أقاليم المملكة المغربية يمكن أن تجد من كان طالباً يدرس في الزاوية التاغية ، بمعنى أن دورها لم يكن محدوداً في المنطقة الوسطى للشاوية ، بل تعدت هذا المستوى. وبقيت رسالة الشيخ أحمد التاغي مستمرة إلى الآن.

المدرسة لاتزال تحتفظ بالتقاليد القديمة التي تركها الشيخ رحمه الله تعالى، القراءة على اللوح ، والكتابة بالصمغ ، والفقيه يصحح الألواح، ويملي على التلاميذ ، والجلوس على الحصير. والتغيير الحاصل هو في الحياة الصحية للطلبة بحيث أصبحوا ينامون على الأسرة ، وتحسنت ظروف إقامتهم.

التلاميذ المنخرطون حالياً في الزاوية عددهم ثلاثة وأربعون ، فيهم من الراشدية ، ومن الخميسات، ومن قلعة السراغنة ومن إقليم الجديدة ، ومن إقليم القنيطرة.

والمنحة التي تمنحها وزارة الأوقاف ونظارة الإقليم قيمتها ثمانون درهماً كل شهر لكل تلميذ ( حوالي تسعة دولارات ).

 

 

 
 
 
 

 copyright 2004 www.zawiah.com جميع الحقوق محفوظة©
e-mail : zawiah@zawiah.com